سورية تقاوم… سورية تنتصر د. فيصل المقداد
نائب وزير الخارجيّة السوريّة
تقع سورية الآن في مركز الاهتمام العالمي، وقد كانتْ سورية في قلب أحداث العالم طيلة تاريخها. لم ألتقِ بعربي أو مع فيتنامي وصيني وأميركي لاتيني وأفريقي وحتى «أوروبي» إلّا وحدثني عن سورية. وكل ما أسمعه عن سورية يثير بي نشوة أنني ابن سورية، أنّني ذرّة من تراب هذا الوطن الطاهر، بوابة التاريخ، أول العالم وآخره، حاضره وغده، نوره ونيرانه.
أحبك يا وطني الصغير لأنّك عالمي الكبير، وما يحزنني هو أنّني لا أستطيع احتكار حبك، فالعاشق لا يريد أبداً أن يشاركه حتّى أقرب الناس إليه حبه. لكنّني ولأنّني مخلص في حبك، أيها الوطن الغالي، أعتز بمحبّة الجميع لك… ففي دمشق بدأ العالم المتمدّن، أوّل عاصمة ما زالت مأهولة في التاريخ. أمّا حلب وبصرى وحمص وحماه وتدّمر ومدن ما بين النهرين فهي حواضر الإنسانيّة التي يقف إنسان القرن الحادي والعشرين مشدوهاً أمام عظمتها بخشوع وذهول.
سورية هي ملك شعبها، لكنّها كذلك كنز إنساني، وهي الوطن الثاني لكل إنسان في العالم كما قال مدير متحف اللوفر الأسبق. وفي تاريخها الطويل، شهدت سورية مرور ملايين المهاجرين على أرضها، فبقي منهم من أقام فيها وكانت وطنه الجديد، وعبَرها آخرون بسلام إلى بلدان اختاروها لأنفسهم. أمّا من بقي على أرض سورية فقد اندمج بتاريخها وأديانها ولغتها وموزاييك أطيافها العرقيّة والثقافيّة والدينيّة بكل تنوعات ذلك، المسيحيّة والإسلاميّة، فكانت سورية عائلة واحدة يتضامن فيها الجار مع جاره في أفراحه وأتراحه وفي الدفاع عن الوطن عندما تدلّهم الخطوب وينادي المنادي الشعب لمواجهة الأعداء.
لقد قرأنا التاريخ السوري بكل اعتزاز على رغم أنّه لم يكن كلّه صفحات تقدّم وازدهار وانتصارات وصفحات علم وثقافة، بل إنّ التاريخ السوري شهد صفحات حزينة لأنّ سورية جغرافيّاً وسياسيّاً كانت محطة لأطماع أعداء الحضارة والسلام والاندماج الاجتماعي. لكنّنا لم نقرأ في كتب التاريخ أنّ سورية قد تعرّضت لما تتعرّض له الآن، وفي الربع الأوّل من القرن الحادي والعشرين من قتل ومجازر ودمار لكل ما هو سوري وإنساني. وها هي الولايات المتحدة، وبناءً على تعليمات «إسرائيليّة» تتعاون مع اتحادها الأوروبي وأدواتها المتخلّفة من ملوك وحكّام وإخوان مسلمين وتكفيريين ومتشددين و«داعشيين» في المنطقة وخارجها، بما في ذلك من حاقدين في تركيّا والسعوديّة ووهابي وإخوان مسلمي هذه الدول لتدمير سورية لأهداف لا علاقة لها بتقدّم الإنسان ورفاهيته.
على رغم مرور وعبور قتلة وغزاة، وارتكاب هؤلاء مجازر وتدمير فوق تراب سورية، إلّا أنّ الدمار وسفك الدماء والمجازر التي يرتكبها من يزعمون أنّهم قادة حضارة اليوم بالتعاون مع داعشييهم أو ما يقوم به ما يُسمّى «الجيش الحر» وكتائب «المجاهدين» وألوية «الثورة» وكتائبها خلال أيام عدة، يفوق عملياً ما قام به الغزاة من خراب عبر التاريخ كلّه، إذ سرق القتلة الجدد آثار سورية وقاموا بتهريبها حتّى وصلت إلى كل أنحاء العالم، أمّا الأوابد التاريخيّة التي بناها السوريون القدماء وحافظ عليها أحفادهم، فإنّ بعضها أصبح ركاماً على يد هؤلاء المجرمين الذين يلقنهم قادة فرنسا وبريطانيا وآخرون في أوروبا دروساً في كيفيّة تدميرها وإحراقها بسلاح الحقد «المعتدل» وغير «المعتدل» وبالسلاح «الفتّاك» وغير «الفتاك» حيث يعلن من يدّعي قيادته للحضارة الإنسانيّة الآن تقديمها «كمساعدات إنسانيّة».
بدأت المؤامرة «الإسرائيليّة» لقتل سورية وتمزيق دول الوطن العربي بعد انتصارات حرب تشرين التحريرية عندما وقّعت مصر اتفاقية كامب ديفيد ووقّعت الأردن اتفاقية وادي عربة، بهدف تطبيع العلاقات مع «إسرائيل» على حساب القضيّة العربيّة المركزيّة، قضيّة فلسطين. وقد شارك في تلك المؤامرة عدد من سياسيي أوروبا المفلسين سياسيّاً وأخلاقيّاً، إضافةً إلى الدول العربيّة التي موّلت التطبيع مع «إسرائيل» سرّاً وعلناً، لأنّ دورها الوظيفي كان ومازال ضرب أي توجّه عربي لترسيخ الهوية القوميّة وتوحيد الجهود ضد أعداء الأمّة. وعندما فشلت كل هذه المحاولات في تطبيع علاقات مصر والأردن والسعوديّة وآخرين مع «إسرائيل»، انتقل التنسيق «الإسرائيلي» الأميركي لحلفاء جدد كانوا على استعداد لتنفيذ المخططات «الإسرائيليّة» بالبعدين الديني والاجتماعي، ولم يجدوا أمامهم إلّا الإخوان المسلمين الذين وعدوا أسيادهم بتنفيذ المخطّط لتدمير الأمّة العربيّة وضمان المصالح «الإسرائيليّة» أوّلاً، والغربيّة ثانياً في المنطقة. فكانت أحزاب الإخوان المسلمين في تركيّا ومصر وليبيا وتونس ودول أخرى جاهزة للانقضاض على منجزات شعوب هذه البلدان، تحت ذرائع ثبت أنّها دنيئة، ومرفوضة من قِبَل الشعب العربي في هذه البلدان وغيرها.
لكن سورية ليست شعوراً رومانسيّاً نبيلاً فقط، فهي لم تفتح أسوارها وأبوابها لغازٍ ولم تسمح للقتلة بعبور أسواقها التي تعبق بروائح العطور والزعتر والغار وزهر الليمون والياسمين. وعندما جاء دورها على لائحة الصهيونيّة ومن يدعمها بهدف كسر صمودها وقهر إرادتها، لم تخضع ولم تنكسر، وأعلنت منذ اليوم الأوّل أنّها لن تسمح بتمرير المؤامرة الصهيونيّة عليها وعلى شعبها وعلى أمّتها. فإذا كان الهدف هو فرض استسلام دمشق للعدو «الإسرائيلي» وقهر آخر موقع صمود عربي، وإذا كان الهدف هو فرط عقد جبهة المقاومة والمواجهة العربيّة لتمرير المؤامرة، وإذا كانت أهداف المؤامرة هي عدم السماح لسورية في أن تكون الرمز والمثال والقدوة التي حقّقها شعبنا وقيادته، فإنّ سورية كانت تعرف أنّ المهمّة الملقاة على عاتقها من قِبَل أمّتها وأصدقائها هي أن تواجه المعركة وتفشل المؤامرة مهما كان الثمن والتضحيات، لم تقبل الخنوع والرضوخ لمخططات الأعداء وقرّرت أن تقاوم وهي تعرف أنّ ثمن الصمود سيكون باهظاً.
لا يمكن إركاع سورية الحضارة والتاريخ والكرامة من خلال حملات إعلاميّة غربيّة وخليجيّة مكشوفة جرى ترتيبها قبل سنوات من خلال تحالفات بين دول ورؤساء وأمراء لا يربط بينهم سوى الحقد على سورية ومواقفها وإنجازاتها. ولا يمكن إسقاط سورية لأنّ بعض المرتزقة الذين استأجروا حفنة من تجّار الارتزاق الذين افتعلوا حوادث هنا وهناك ورفعوا شعارات لقنتّهم إياها مدارس الانقلابات والثورات المزيّفة! وأخيراً لا يمكن السماح بتمرير المؤامرات «الإسرائيليّة» التي قامت بتسليح مجموعات إرهابيّة أرادت السعوديّة وأسيادها في الغرب من خلالها تفتيت سورية وإنهاء دورها المثال ووجودها الرمز!
لم يكن أمام سورية كثير من الخيارات، فهي إمّا أن تنتصر أو أن تنتصر، لا خيار آخر أمامها. وما عانته دولنا العربيّة وانفضاح مؤامرة السعوديّة وغيرها التي وجّهت طائراتها لغزو ليبيا تحت راية الناتو وأعداء الأمّة الآخرين، عزز قناعة شعب سورية باتخاذ قرار المواجهة بقيادة الرئيس بشار الأسد لخوض المعركة بعد استنفاد الحلول السياسيّة كافّة والوساطات التي تمّت لوقف قتل سورية على يد المرتزقة وإرهابيي العالم. فهل ارتكبت سورية أيّة جريمة عندما أعلنت منذ اليوم الأوّل أنّها تواجه إرهاباً وأنّه يشرّفها أن تخوض هذه المعركة؟ خصوصاً أنها لم تتعوّد على رفع الراية البيضاء والاستكانة للابتزاز والضغوط، لأنّها لو ألقت براية الصمود والمواجهة جانباً لكانت قد تخلّت عن واجبها المقدّس في الحفاظ على إرثها النضالي وعن حق أمّتها في العيش كريمة معافاة.
وهكذا هبّت سورية جيشاً عقائديّاً وشباباً ونساءً لدحر المؤامرة والعدوان المباشر عليها. وسطّرت دماء شهداء سورية وجرحاها أروع قصائد النبل والبذل والسخاء والكرم دفاعاً عن الأرض والتاريخ ومصير الأمّة وقضاياها العادلة. أرسلت الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون كل إرهابييهم وقتلتهم إلى سورية على مرأى أجهزة استخباراتها. وقامت حكومة أردوغان، برعاية مباشرة من رئيس وزرائها الآن أحمد داوود أوغلو ورئيس أجهزة استخباراتها، بتسليح هؤلاء الإرهابيين وتدريبهم وإرسالهم عبر الحدود إلى سورية. وقام بعض حكّام الخليج، على رغم اختلافاتهم المضحكة حول من سيقدّم خدماته وعمالته أكثر لـ«إسرائيل» وأميركا بدفع مليارات الدولارات لقتلة الشعب السوري. وفي كل مرّة كانت تقترب فيها سورية من تحقيق الانتصار، كانت هذه الأنظمة والحكومات الغربيّة والنظام التركي تزيد من دعمها للإرهاب والقتل والدمار في سورية، الأمر الذي أدّى إلى إطالة الأزمة وسقوط مزيد من الضحايا السوريين المدنيين الأبرياء والأطفال والنساء وكبار السن وتدمير البنى التحتيّة السوريّة بما في ذلك من مستشفيات ومدارس…
ومما لا مجال لإخفائه هو ذلك التحالف المكشوف بين قادة المجموعات الإرهابيّة المسلّحة و«إسرائيل»، وخصوصاً مهاجمة المجموعات الإرهابيّة المسلّحة للمخيمات الفلسطينيّة في سورية ومحاصرتها وتهجير سكّانها، وخلق أزمة اللجوء السوريّة بهدف تبرير إقامة مناطق عازلة ومناطق حظر طيران لأنّ الأغبياء الذين شنّوا هذه الحرب على سورية اعتقدوا أنّها لن تمتد لأكثر من أيام أو أسابيع، ناهيك عن التغطية الإعلامية للمجرمين والقتلة والتغطية السياسيّة في مؤسسات الأمم المتحدة في نيويورك وجنيف.
لم يكن «داعش» وجبهة النصرة وتنظيمات القاعدة الإرهابيّة الأخرى ظاهرة طبيعيّة في تاريخنا العربي والإسلامي، لكن استيلاد هذه التنظيمات من رحم الوهابيّة ومصالح «إسرائيل» والولايات المتحدة وحروبها على شعوب المنطقة بهدف تشويه أدياننا السماويّة وحضارتنا التي اتسمت بالتسامح والانفتاح والتعدديّة، جاء في إطار مخطط خبيث ومدروس جيّداً لقهرنا من جهة وتمكين «إسرائيل» من بسط هيمنتها علينا إلى ما لا نهاية من جهة أخرى. ولا يمكن إقناعنا أنّ الولايات المتحدة وحلفاءها في تركيّا والسعوديّة وغير هؤلاء لم تكن بعيدة من طلب خدمات «داعش» ضد سورية والعراق، لا سيما أنّ البعض في هذه الدول قد بشّر بأنّ المعركة مع «داعش» ستستمر ثلاثين سنة، وهذا يعني عمليّاً تمكين «داعش» من تنفيذ كل ما رسموه وأرادوا لها تحقيقه!
إذا كان القدر قد أراد لسورية أن تقوم بالدفاع عن حقوق شعبها وأمّتها وأن لا تنحني أمام الأعداء ولا أمام المرتزقة والمتآمرين، فإنّ قدر سورية وإرادة شعبها وجيشها هما أيضاً أن تتحمّل المسؤوليّة بشرف وأن تقود أمّتها نحو عزّتها وألّا تتخلّى عن واجبها.
إن البلد الذي يصمد على رغم الحرب العدوانيّة والإرهابيّة الكونيّة المعلنة عليه منذ أربع سنوات لا بد أن ينتصر، وسورية ستنتصر…
(البناء)