متى تنتهى إسرائيل ؟ عبد الحليم قنديل
قد لا يكون المقام مناسبا لاستغراق فى مناقشات عن تفسيرات قرآنية ، وبالذات عن “وعد الآخرة” المؤكد فى آيات “سورة الإسراء” ، وما إذا كان الوعد المقصود تحقق مع بعثة النبى الخاتم عليه أفضل الصلاة والسلام ، أو فى زمن لاحق ، أو فى أيامنا الجارية بعد قيام وتغول كيان الاحتلال الإسرائيلى ، وفى العقود الأخيرة ، ظهرت تفسيرات تركن إلى الإعجاز العلمى والقياسات العددية ، قادت الشيخ الفلسطينى بسام جرار ـ مثلا ـ إلى توقع زوال إسرائيل عام 2022 ، قالها الرجل قبل نحو ثلاثين سنة ، وحين أصبحنا على حافة الموعد المضروب ، ولم تكتمل بعد أشراط الساعة ، بدا الرجل فى حال التلعثم ، وربما التسليم بخطأ تفسيره لموعد تحقق الوعد الإلهى القادم حتما .
ومن جهتنا ، نثق بالوعد السماوى ، وإن اختلفت المواعيد ، ولا نجادل فى الإشارات الدينية ، وإن كنا نقرأ أكثر فى الإشارات الدنيوية ، وفى الواقع الملموس عندنا ومن حولنا ، وفى تحولات العالم ، وتقلبات فواه الغالبة فى ميادين الاقتصاد والسلاح والتكنولوجيا والسياسة ، وفيما جرى ويجرى داخل كيان الاحتلال الإسرائيلى نفسه ، وعلى هدى من رؤى مدرسة العلامة الراحل عبد الوهاب المسيرى ، صاحب أهم وأشمل موسوعة بالعربية عن “اليهود واليهودية والصهيونية” ، وقد خلفته فى قيادة حركة “كفاية” ، وشرفت بأن أهدانى قبلها بسنين موسوعته البديعة وقت صدورها ، وبنسختها الشاملة فى ثمانية أجزاء ، ثم بنسختها المختصرة فى جزءين ، ولم يكن المسيرى يجيد اللغة العبرية ، بل كان أستاذا فى الأدب الإنجليزى ، ومدخله فى الفهم والتفسير والتوقع ، أن الحركة الصهيونية نشأت فى سياق غربى محض ، وهى بنت مراحل ازدهار الأفكار العنصرية والاستعمارية ، وانتصر لها المعادون للسامية ولليهود ، على طريقة آرثر جيمس بلفور صاحب الوعد الشهير المشئوم ، ومقتضى الفهم المذكور ، أن رحلة إسرائيل ككيان استعمارى استيطانى إحلالى ، لاتختلف إلا فى التفاصيل والمواقيت ، عن رحلة صعود وهبوط الاستعمار الغربى ذاته ، وقد انتقلت قيادة الغرب كما هو معروف إلى أمريكا بعد الحرب “العالمية” الثانية ، وصارت إسرائيل قاعدة متقدمة للغرب ، ولأمريكا بالذات بين ظهرانينا ، وهو ما عبر عنه الرئيس الأمريكى الحالى جو بايدن نفسه ، وهو يعد نفسه صهيونيا بامتياز ، وعبر رحلته الطويلة فى قلب المؤسسة الأمريكية الحاكمة من الكونجرس إلى البيت الأبيض ، كان يقول ما معناه “لو لم تكن إسرائيل موجودة لوجب اختراعها” ، وهذا التماهى الإندماجى المطلق ، يغرى بتذكرتوقع أسبق من تفسيرات موسوعة المسيرى ، كان صاحبه العلامة الأشهر جمال حمدان ، صاحب الدراسة الرائدة فى بابها ” اليهود أنثروبولوجيا” ، وقد كان حمدان يربط من أواسط ستينيات القرن العشرين ، بين مصير إسرائيل ومصير نفوذ أمريكا الكونى ، وبما يعنى بوضوح ، أن تراجع مكانة أمريكا العالمية ، قد يعنى تراجعا بالتداعى فى فرص بقاء إسرائيل على حالها ، ولم يعش جمال حمدان ـ المغتال إسرائيليا على الأرجح ـ إلى أيامنا ، حتى يرى نبوءته تنفتح لها الأبواب ، فقد تراجعت مكانة أمريكا كونيا ، ولم تعد قطب العالم الوحيد ، ولا فى مكانة “القطب الأعظم” بألف ولام التعريف ، بل تنزل إلى وضع قوة عظمى بين متعددين ، فيما تتقدم الصين بإطراد إلى قمة القطب الأول ، بمعايير التفوق فى الاقتصاد والتكنولوجيا والتجارة والسلاح .
ومن المشهد الجامع إلى المشهد الأصغر ، يبدو انتفاخ وتوسع الكيان الإسرائيلى إلى تقلص ، وقد كانت ذروة صعود إسرائيل فى حرب 1967 الخاطفة ، بعدها لم تنتصر إسرائيل فى حرب أبدا ، وانكمشت رقعة التوسع الإسرائيلى جغرافيا ، وعاد الصدام كما بدأ على أرض فلسطين المحتلة كلها ، ومع انتفاضة الفلسطينيين المعاصرة الثانية أواخر 2000 ، قالها آرئيل شارون آخر جنرالات إسرائيل الكبار ، قبل أن يذهب إلى غيبوبة طويلة فإعلان موت مؤجل ، قال شارون أنه يشعر أن حرب 1948 ، يجرى استئنافها من جديد ، وكان هاجس الرجل وراء هروبه بالجلاء عن غزة وتفكيك المستوطنات الاستعمارية فيها عام 2005 ، لكن الهروب من الأقدار لا يمنع تمامها ، وصارت غزة التى يراد عزلها ، سائرة إلى قلب فلسطين لا على حوافها ، وبحروب ثلاثة دامية طويلة ، عجزت فيها إسرائيل عن تحقيق أى نصر ، ثم بحرب رابعة ، كانت القدس فيها موضع الإلهام وعاصمة النفير ، واتسع فيها واستطال مدى صواريخ غزة ، حتى غلبت ومحت فواصل الجغرافيا ، ونشرت الرعب فى قلوب المستوطنين المستعمرين الإسرائيليين ، ووحدت الشعب الفلسطينى فى ميدان عمليات واحد ، لا فرق فيه ولا تباعد بين “غزة” و”اللد” ، ولا بين “نابلس” و”حيفا” ، ولم يكن التطور الدرامى مفاجئا ، بل كان تحولا نوعيا بعد تراكمات الثلاثين سنة الأخيرة ، فقد استعادت الانتفاضات الأربع فى 1987 و2000 و2015 و 2021 وحدة الشعب الفلسطينى الكفاحية ، واستعادت ثقته فى قوته المتنامية على أرض الصراع بكامل الجغرافيا ، كان آرنون سافير ، وهو عالم ديموجرافيا إسرائيلى بارز ، يحذر مبكرا من “حروب غرف النوم” ، ويعدها أخطر من حروب السلاح والاستيطان ، وقد تحققت نبوءته الخطرة على سيرة الكيان ، وتحول البندول السكانى لصالح الفلسطينيين منذ عام 2015 ، وقتها كان هناك ما يشبه التعادل السكانى فوق الأرض المقدسة ، قبل أن يزيد عدد السكان الفلسطينيين على عدد اليهود المجلوبين اليوم ، فوق قفزات الوعى القومى الفلسطينى فى الداخل المحتل منذ نكبة 1948 ، وفوق دفع إسرائيل نفسها للوعى القومى الفلسطينى إلى مداه فى السنوات الأخيرة من حيث لم تحتسب ، مع إصدار قانون “القومية اليهودية” العنصرى ، وهو ما أعاد القضية مع قيامة القدس إلى صباها وفتوتها وحرارتها الأولى ، فوق خبرات هائلة اكتسبها الشعب الفلسطينى تحت وطأة المحنة الفريدة ، جعلت التفوق السكانى الفلسطينى نوعيا لا عدديا فقط ، وبانتشار جغرافى فى 17 إقليما من 26 إقليما طبيعيا بفلسطين كلها ، فقد تملك إسرائيل كل أسلحة القتل والتكنولوجيا والدمار حتى السعار النووى ، لكن الجسد الحامل للسلاح يضعف مع الزمن ، ولم يعد قادرا على كسب الحرب بمجملها ، ولا حتى على كسب معارك متقطعة تدور ، فإسرائيل فى البدء والمنتهى ، ليست أكثر ولا أقل من كيان استعمارى استيطانى احلالى ، سلاحه الأول هو المادة البشرية التى يجلبها لتعميم الطرد والاستيطان ، وقد نفدت أو كادت مخازن التهجير اليهودى المستعد للذهاب إلى فلسطين ، كان معدل النمو السكانى الإسرائيلى يصل إلى 9% سنويا فى خمسينيات القرن العشرين ، وتراجع إلى 1.5% فى الثمانينيات ، وكانت آخر دفعة بشرية كبرى لإسرائيل أوائل التسعينيات ، مع هجرة “اليهود السوفييت” ، بعدها زادت معدلات الهجرة العكسية ، وتراجع الإمداد البشرى ، فيهود أمريكا مثلا ، وهم نصف يهود العالم اليوم ، ليسوا مستعدين غالبا للمخاطرة بالذهاب إلى الجحيم ، فوق التغير الملموس فى طبيعة المادة البشرية الإسرائيلية ، وضعف مؤهلات القتال لديها ، كانت فكرة “الكيبوتز” والمزرعة الجماعية مؤسسة لكيان إسرائيل فى اندفاعه الأول ، كانت تلخص معانى “العمل العبرى” وزرع الارتباط بالأرض ، وكانت “الكيبوتزات” موردا لربع ضباط جيش الاحتلال وأكثرهم شراسة ، ومع التحول إلى نمط الحياة الأمريكية الفردية ، ضعف أثر “الصهيونية الكيبوتزية” لو صح التعبير ، وصارت مقاعد قيادة إسرائيل خالية أو تكاد من جنرالات الصهيونية الكبار ، ومرتعا لقيادات هشة “تيك أواى” من نوع إيهود أولمرت و تسيبى ليفنى و بنيامين نتنياهو ونفتالى بينيت ويائير لابيد من بعده ، وتفكك الإجماع الإسرائيلى السياسى ، وتكررت دورات الانتخابات المتلاحقة بغير نتائج حاسمة ولا أغلبية متماسكة ، وزادت مصاعب تأليف الحكومات ، وحلت صرخات اليمين المرتعبة من سوء المصائر ، والميل الغريزى إلى التعويض عن بؤس الواقع بفسحة الخيال ، من نوع اشتراط تعريف إسرائيل بأنها “دولة يهودية” حصرا ، بينما لم تكن إسرائيل بعيدة عن هذا المعنى ، بقدر ما هى عليه اليوم وغدا ، فالأغلبية الفلسطينية إلى ازدياد واثق ، وقد تصل إلى ثلثى إجمالى المقيمين بين النهر والبحر فى مدى عقدين مقبلين .
والمعنى الأخير إجمالا ، أن فكرة “حل الدولتين” ، على صعوباتها واستحالاتها المنظورة ، لا تخدم سوى كيان الصهاينة ، وهم لحسن الحظ ، لا يريدون التسليم بها ، ربما لأن أقدار التاريخ ، وقبلها يد الله الممدودة للسائرين على طريق استعادة الحقوق كاملة ، تدفع إلى غاية أخرى، هى دولة مواطنة متساوية ديمقراطية واحدة بأغلبية فلسطينية وأقلية يهودية ، تقوم مع زوال الاحتلال وكيانه الصهيونى العنصرى ، وتلك فيما نظن ، هى الصورة الأرجح لنهاية إسرائيل التى نعرفها ، ربما مع أو قبل مرور مئة سنة على إعلان كيان الاغتصاب 1948 .