التحولات الدولية والإقليمية والحاجة الى تفكير جديد
غالب قنديل
من أسوأ الظواهر الإنسانية هو التبلّد الذهني والعقم الفكري والعجز عن مواكبة التحولات. وهذه الخاصّية توصف عادة بمظاهر الركود والمراوحة، لكنها في الحقيقة ميزة ملازِمة للتخلّف، ولانحطاط النُخب وعجزها عن الابتكار، وهي تشي بالتالي بعلّة مقيمة في البنيان الاجتماعي والثقافي. فليس من قَدَر المجتمعات أن تستسلم للركود ولمشيئة الظروف العمياء، دون بوادر تفكير وبحث جدي في كيفية التعامل مع التحولات الجارية في المحيط الدولي والإقليمي.
أولا: إن منطقتنا بأسرها، أي الشرق العربي، تحتاج الى تفكير جديد وغير تقليدي في التعامل مع أزماتها، التي تتجمّع تحت لواء معضلات النمو وتحديات الاستقلال والسيادة الوطنية. ولا شك، إن التصدّي للعدوان الصهيوني والأميركي، وما يطرحه من أخطار وجودية ومن تحدّيات تمسّ السيادة والاستقلال ونزعة التحرّر، يمثّل المصدر الرئيسي للمشاكل وللمخاطر التي تعاني منها بلداننا، ولا سيما في الشرق العربي. ويمكن لنا أن نؤرّخ لمسار الأزمات المتناسلة والمعاناة المديدة والعميقة في جميع المجالات منذ نكبة فلسطين والحروب الأميركية المتعاقبة التي استمرّت الى اليوم. والحقيقة أن عملية البناء الاقتصادي والحضاري في ظل الحرب والاستنزاف والحصار وعمليات التدمير شبه الكلّي لبنى المجتمع والاقتصاد، تقدّم حصيلة كارثية في تجارب بلداننا. فهذا هو الواقع التراكمي لما يعيشه كلٌّ من سورية ولبنان واليمن والعراق. وحيث تتضافر اليوم نتائج الكوارث والحروب مع حصار أميركي مُحكَم، تعبّر عنه منظومة العقوبات، التي تلتحق بها القارة الأوروبية وبعض الدول العربية خلف القاطرة الأميركية العدوانية.
إن هذا الواقع يستنزف الموارد والطاقات الاقتصادية والبشرية في بلداننا، ويُلحق أزمات وكوارث متناسلة وخسائر غير مسبوقة بفرص النمو وبالمسار الطبيعي والمألوف لتراكم الثروة.
ثانيا: إن ما تحمّلته المنطقة حتى اليوم من نتائج الحروب، بما فيها من تدمير واستنزاف، يمثّل جريمة أميركية غربية موصوفة، تعزّزها تدابير الحصار والعقوبات والضغوط، التي تُفرض بكل وقاحة على دول مستقلة، وتخضعها لحالة استنزاف قاهرة، تعيق أيّ جهد للبناء أو التنمية في ظل الحصار والعقوبات الانتقامية. بل إنها تضاعف من كلفة الاستمرار والبقاء لأهل المنطقة في جميع البلدان المستهدفة. وهذه جزء من الجرائم الاستعمارية الغربية الموصوفة. فالعراق واليمن وسورية ولبنان، هي بلدان سوف تحمل على مدى العقود القادمة، كلفة مضاعفة لما تعرّضت له على يد الحلف الاستعماري وأدواته وحروبه المباشرة أو بالواسطة، وآخرها غزوة التكفير ومنظومة العقوبات الضارية، التي تشكّل قوة استنزاف خطيرة لطاقة الإنتاج وللقدرة على الاستمرار في هذه البلدان.
ما يجري في بلدان المشرق هو مثالٌ للتوحّش الاستعماري وللبطش الأعمى والبربري، الذي تمارسه دول الغرب بهدف إخضاع المنطقة، ولا يفيد معه سوى المجاهرة بالرفض والتمرّد والبحث عن سبل المقاومة والتصدّي والاعتماد على القدرات الوطنية والبحث عن شركاء في العالم خارج منظومة النهب الاستعماري الغربية، التي تمارس ابتزازا وتسلّطا لصوصيا مكشوفا على دول العالم الثالث، ولا سيما تلك الدول التي تصنّفها مراكز القرار الاستعماري الغربي دولا عاصية ومتمرّدة، بسبب تصميمها على إرادة الاستقلال والتطوّر الحر بكرامة ودون إملاءات.
ثالثا: إن توحيد الجهود والتكاتف بين بلدان المشرق العربي والانتقال الى شراكات عابرة للحدود، هو السبيل الوحيد لامتلاك مستلزمات الصمود ورفع رصيد القدرة على مجابهة التحديات وقهر الصعوبات. ومن العبث هدر الوقت بعيدا عن التفكير المجدي في كيفية الوصول الى صيغ للتكامل والتكتّل، تسمح لبلداننا بخوض التحديات معا، وبناء المصالح المشتركة بصورة مباشرة في سبيل بلورة إرادة موحّدة ومصالح مشتركة بين الناس والمؤسسات، عابرة للحدود، وقادرة على تعزيز عناصر القوة بشكل يمكن أن يسهم في اختصار مسافة الاستنزاف، التي يريدها الغرب الاستعماري سبيلا الى كسر الإرادات الحرّة لشعوب الشرق، وإعادة تثبيت الهيمنة اللصوصية والنهب الاستعماري، وعينه دائما على حجم الثروات الكامنة والظاهرة والنهب الدائم والمتجدّد للأسواق وللثروات، وفرض الشروط المانعة للتنمية المستقلة، التي تحرّر الإرادة الوطنية، وتحقّق استقلالا سياسيا منيعا ومحصّنا ضد الإملاءات والحصار.
التحدّي الذي تواجهه بلدان الشرق العربي يتطلّب توحيدا للجهود، ينطلق من بناء إرادة مشتركة، وصيغة للعمل المشترك، حدّها الأدنى إطار إقليمي منظّم للتعاون الاقتصادي، يمكن أن ينطلق ليراكم المصالح المشتركة، وينمو بالتجربة وبتوسّع الثقة بين الدول المعنية. وهذا التحدّي لا يحتمل التأخير لأن الكارثة داهمة والخسائر ضخمة والتحدّيات هائلة، ومن الصعب على أيٍّ من بلداننا التصدي لها منفردا. ومهمة الإعلاميين والمثقفين في جميع بلدان شرقنا العربي، أي لبنان وسورية والعراق واليمن، أن يتخذوا مبادراتٍ للتفاعل والحوار حول التحدّيات والمصالح المشتركة الراهنة والمستقبلية، وكيفية التعامل معها. وتلك هي البذرة الأولى لهدف كبير، قد يبدو اليوم مستحيلا، ولكن يجب أن نطبّق عليه المثل القائل “كلُّ ذي شأن كبير كان من قبل صغيرا”. وجميع المنجزات الحضارية العظمى في تاريخ الأمم والشعوب انطلقت بذرتها بفكرة، وفكرة اتحاد البلدان العربية حول مشروع للتنمية والنهوض يجب أن تبقى حيّة ولا تموت، وأول الطريق هو التلاقي بين قلاع المقاومة والتحرّر، أي لبنان وسورية والعراق واليمن.