ما أكثر العبر وما أقلّ الاعتبار أ.د. بثينة شعبان
بالرغم من كل الألم والفقد والضيق الذي تسبب به وباء كوفيد 19 للعالم برمته فقد قدّم لنا عدداً من الدروس المستفادة والتي يتوجب علينا التوقف عندها والتفكّر بها، وأول هذه الدروس هو القهر المفاجئ الصاعق الذي لم تحسب له حساباً يوماً؛ إذ بمجرّد معرفتك أن أحد الأصدقاء أو الأهل أو الأحبّاء قد أصيب بهذا الوباء فإن الحكمة تقتضي ألّا تزوره وألّا تختلط معه أبداً، وإذا انتهى الأمر بوفاته فالحكمة تقتضي أيضاً ألّا تقيم مراسم وداع أو تعزية له أو تخالط من خالطوه لأن ذلك قد يساهم بنشر هذا الوباء لمحبين آخرين أيضاً. لا شك أن الموت حق وأننا جميعاً ننتظر يومنا الموعود، ولكن ألّا تتمكن من أن ترى فقيدك وتقبّله قبلة الوداع فهذا يضيف مرارة إلى مرارة الفقد والحرمان. كما أن السرعة التي نفقد بها عزيزاً بعد الآخر وكأن الموت يخطفهم على حين غرّة درس أساسي لنا لنتفحصه ونتأمله بهدوء وعمق؛ فكم من الذين قضوا عمل في الليل والنهار كي يتمكن من بلوغ وضع ما وكي يحقق وضعاً معيشياً له ولأولاده من بعده، قضى دون أن ينفق على نفسه أو على أعمال الخير إلا النزر اليسير مما جمعه. ومع أن المرء يرى ما حلّ بالآخرين فمازال يعمل في هذه الحياة الدنيا وكأنها سوف تستمر آلاف السنين. لا شك أن الإنسان يجب أن يعمل لدنياه وكأنه يعيش أبداً ولكن لابدّ وأن يعمل لآخرته وكأنه يموت غداً.
اليوم وبعد أن أصبح الموت الخبر الأول في الصباح والمساء تبدو لنا الحياة مؤقتة أكثر مما كانت في أي وقت مضى، وهاهم جميعاً متساوون في الموت وتنزل أجسادهم في بقعة صغيرة من الأرض ليحتويها التراب، يتساوى في ذلك من جمع الملايين ومن كان لا يملك سوى قوت يومه قبل بلوغه أجله، ومع ذلك ما زلنا نتابع أخبار من ترك ثروات طائلة دون أن يتكرم على أهل أو أقارب أو أصدقاء أو محتاجين ودون أن يلبي حاجتهم حين قصدوه في شدّة ما. أولا يرى الإنسان أن كلّ من سبقه قد غادر بكفن بسيط واستقرّ في تراب بسيط ولم يأخذ معه شيئاً من المال الذي جمعه وعدده؟ أولم يرَ أن الأرقام التي أودعها البعض في بنوك خارجية بقيت أرقاماً أو تمّت مصادرتها بذريعة أو بأخرى؟ أولم يرَ الإنسان أن المال الذي يملكه هو فقط الذي ينفقه وليس ما يكدّسه، وأن أفضل ما ينفق هو على الفقراء والمحتاجين في أيام ذات مسغبة وفي أيام الحاجة والعوز؟
لا أعلم كيف تمرّ هذه الدروس مرور الكرام على البعض دون أن تحدث تغييراً حقيقياً في حياتهم وتغيّر سلوكهم وقناعاتهم. والأمر يصبح أفدح وأدهى حين يساوم البعض على سلامة الأوطان ومستقبلها وعلى سلامة الأهل والجيران والأحبّاء ومستقبل أولادهم وأحفادهم كي يضع له أعداء وطنه رصيداً في بنك يغريه ويشعره بالغنى والسعادة، رغم أن كلّ من خانوا أوطانهم انتهوا يأكلون من القمامة في البلاد التي استدرجتهم وأقنعتهم أن يرتكبوا كبائر الإثم بالتخلّي عن الأرض والأهل وتسديد سهمٍ لقلب البلاد التي احتضنت وأنجبت وأطعمت وربّت. أولم يقرأ هؤلاء سِيَر كل الخونة الذين سبقوهم في هذا الضلال وانتهوا أسوأ نهاية يمكن أن يتوقعها إنسان ؟ أولم يتعلموا من سِيَر هؤلاء أن لا شيء على الإطلاق يمكن ان يبرّر طعنة الأرض التي أنبتت ولا ثمن على الإطلاق يساوي خيانة المنبت والمربى ومشاهدة الوطن وأبنائه يدفعون ثمن الخيانة والغدر الذي اقترفه بعض من أبنائه المدللين؟ في مراجعة كلّ تاريخنا نلاحظ أن قوة الأعداء التي استهدفتنا وأوقفت عجلة تقدمنا أكثر من مرة في مسار التاريخ مستمدةٌ أولاً وقبل كل شيء من تعاضد الخونة الذين وفروا نافذة للأعداء ينفذون منها ليصيبوا قلب الوطن بسهامهم الغادرة. أولم يرَ هؤلاء أن العار الذي أورثه الخونة لأبنائهم وأحفادهم يلاحق اسمهم وسمعتهم ومكانتهم بعد عشرات السنين من مغادرتهم هذه الدنيا بينما يرفل أبناء وأحفاد الصامدين والوطنيين والمدافعين عن أرضهم وترابهم في عزّ دائم واحترام متين من أبناء شعبهم ومن العدو قبل الصديق؟ أولم يرَ هؤلاء أن الذي يشتري مواقفهم بالمال ليس مستعداً أن يسمع منهم كلمة واحدة تنتقد مواقف بلده؟ أولا يخجلون من المقارنة بين بيعهم لبلدانهم بثمن بخس وبين عمل المستعمر الذي يبذل الوقت والمال لتحصين موقف بلده حتى وإن كان على خطأ؟
إحدى المشاكل التي درجنا عليها هي أننا لم نواجه هذه الحالات بصراحة ولم نخبر الأجيال عنها في كتبهم الدراسية ولم نورد لهم هذه المقارنات كي نحصّنهم وكي نمكّنهم من اختيار الطريق القويم ومن اتخاذ المواقف السليمة سلباً أو إيجاباً، بل في كلّ كتب التاريخ والكتب المدرسية يتم تحاشي سرد القصص كما هي؛ قصص بطولة من ضحى وبذل الغالي والرخيص في سبيل وطنه، وقصص من خان وباع وعاقبة من فعل ذلك عليه وعلى أسرته وأولاده في أجيال متعاقبة. لا أعلم ما هو سرّ ضعف إيمان العرب بالذات ببلدانهم ومستقبل هذه البلدان رغم أن لديهم من الحضارة والإرث والمساهمة بإغناء التاريخ العالمي ما يحق لهم أن يفتخروا به ويبنوا عليه، أهي الثقافة الاستعمارية التي تعمل قبل كل شيء على تدمير ثقة المستعمَر بذاته وبمقدراته وببلده؟ وهذا يعني أن بلداننا وبعد الاستقلال لم تبذل الجهد المطلوب لتغيير هذه الثقافة بما يتناغم وإعادة بناء الثقة بالنفس واقتلاع كلّ ما زرعه المستعمر بين ظهرانينا لتدمير هذه الثقة.
إذا كان هذا التشخيص دقيقاً فإن المطلوب اليوم هو تحرير الفكر والإرادة وليس تحرير الأرض فقط. ونحن غالباً ما نكرّس كل الموارد لتحرير الأرض دون إيلاء الاهتمام المطلوب لتحرير الفكر والإرادة من الاستعمار الثقافي والوجداني والذي يتبعَهُ استعمار الأرض والإنسان؛ فبالإضافة إلى الجيش الذي يقاتل ويضحي ويبذل الدماء نحن بحاجة إلى جيش آخر من المفكرين والمثقفين الوطنيين الذين يشخّصون الداء ويصفون الدواء ويعكفون على تجذير ثقافة البذل والعطاء للوطن وخلق المناعة الفكرية ضد دعايات الخصوم وإشاعات الأعداء، وخلق جدار ثقافي متين يتعلم داخله جيل المستقبل المعنى الحقيقي للأوطان بحيث يكون غير قابل للاختراق أبداً من أي طرف كان.
نراقب صفوف الخصوم والأعداء الذين يعتدون على أرضنا وأرزاقنا وأملاكنا وينهبون ثرواتنا ومع ذلك نجد إعلامهم ورواياتهم متماسكة ومقنعة لأجيالهم بحيث لا تستطيع أن تقنع أحداً منهم بعكس دورة آلته الإعلامية والسياسية والثقافية. ليس معيباً أن يتعلم المرء من خصومه وأعدائه وأن يقلّد الأدوات التي يستخدمونها والتي اثبتت فاعليتها على مرّ الزمن، خاصة أنهم يستخدمونها للترويج للباطل، بينما نحن سنستخدمها للترويج للحق. ولكن وفي كل هذا وذاك يجب أن تنتفي قيمة المال لدى المسؤولين عن مستقبل الأوطان وألّا تتمكن أي مغريات من شراء ذممهم التي نذرت نفسها لمصلحة الأوطان ليس إلّا.
ما ينطبق على حياة الشخص يسري على حياة الوطن أيضاً فحياة الأشخاص قصيرة مهما طالت، ولكنّ البقاء لله والأوطان والذكر الحميد؛ فهل من يعتبر؟