نصرالله عصر التنوير وماكرون محاكم التفتيش: ناصر قنديل
–العلمانية التي ظهرت كنظام سياسي وعقد اجتماعي للدولة الأوروبية المعاصرة، هي منتج سياسي وقانوني لثقافة أعمق نهضت على أكتاف الثورة الصناعيّة وتجسّدت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر بثورة العقل والمنطق. وما عُرف بعصر التنوير الذي قاده عمالقة بحجم فولتير وروسو ومونتسكيو، وتبلورت شعاراتها السياسية بالحرية والأخاء والمساواة في الثورة الفرنسية، بينما تبلورت فلسفته العميقة بالاحتكام للعقل، وكانت قطيعة مع تاريخ معاكس مثلته محاكم التفتيش الكاثوليكية التي دفع فيلسوف كبير مثل برونو وعلماء كبار مثل كوبرنيكوس وجاليلو ثمناً باهظاً لها بتهمة الهرطقة على قاعدة تحريم الاحتكام للعقل والعلم، بينما سياسياً واجتماعياً طورد الإصلاحيون باسم التبرؤ من البدع كما حدث مع الفيلسوف ميشال سيرفيه الذي أحرق حياً في جنيف بتهمة رفض عقيدة التثليث، فيما شكلت جرائمها بحق المسلمين في الأندلس أبرز ما حمله سجلها التاريخي تحت عنوان فحص الولاء لله، وشكلت فكرياً وثقافياً وجهاً من وجوه استمرار الحملات الصليبية.
– في ما يشبه استعادة مناخات الحروب الصليبية يتبادل الرئيسان الفرنسي والتركي عبثاً بالعقائد والعواطف والانفعالات المنبثقة عنها، حيث يصب كل منهما من طرفه وفي البيئة التي يخاطبها زيتاً على نار حرب عبثية، لا يتورّع فيها الرئيس الفرنسي امانويل ماكرون عن التحدث عن أزمة في الإسلام، وإرهاب إسلامي، وفاشية إسلامية، أملاً بأن يتزعم جبهة تضم العلمانيين بداعي الدفاع عن حرية التعبير في شقها المتصل بالتغطية على ما يطال المقدسات الإسلامية، وتضم المتطرفين المسيحيين، الذين لا يخفون ضيقهم من تنامي حضور وتعداد المسلمين في فرنسا خصوصاً وأوروبا عموماً، وإلى الفريقين تضم اليمين الوطني الرافض لتكاثر المهاجرين من البلاد الإسلامية، أملاً بأن يشكل هذا الثلاثي مصدر زعامة تشبه زعامات بناها قادة الحروب الصليبية، بينما يسعى الرئيس التركي رجب أردوغان، وفي ظل نزاع مصلحي بين الدولتين الفرنسية والتركية، لقيادة جبهة تضم الجاليات الإسلامية المقهورة تحت ظلم سياسات عنصرية في أوروبا، وتضم التنظيمات الإرهابية التكفيرية التي تشغّلها تركيا، وكانت فرنسا شريكها في التشغيل طوال سنوات الحرب على سورية، وتضم ثالثاً الشعوب العربية من المسلمين التي تسمع بصعوبة كلاماً منخفض الصوت لحكوماتها الواقعة تحت تبعية ذليلة لحكومات الغرب، فتعجز عن التجرؤ لمخاطبة الحكومات الغربية، والرئيس الفرنسي في المقدمة بلغة شجاعة تنتقد وتصحح وتعترض. وهذه الحكومات التابعة هي شريك لحكومات فرنسا وأوروبا في رعاية الجماعات الإرهابية وتشجيع الفكر التكفيري، لكن بغرض استعمال نتاج هذه الرعاية في ليبيا وسورية وليس في أوروبا.
– في هذا القحط الفكري، والانفلات القاتل للعصبيّات، يخرج رجل دين معمّم من أتباع الرسول وعشاقه ليقود الدعوة للتعقل وتحمّل المسؤولية، ووضع النقاط على الحروف، مستعيداً المعاني العميقة لشعارات الثورة الفرنسية ودعوات روسو وفولتير، حيث الحرية هي الاحترام العميق لحرية المعتقد. وهو في الأولوية معتقد الأقلية والضعفاء والمقهورين، والأخاء هو الترفّع عن منطق التمييز العنصري على اساس الدين والعرق واللون والجنس، والمساواة هي نزاهة تطبيق معيار المحاكمة العقلية للمفاهيم قبل أن تكون المساواة أمام القانون، حيث لا يستوي نص تحريم الحرية والعقل تحت شعار معاداة السامية، ولو التزما كل التحفظ العلمي والضوابط الأخلاقية، وتطلق حرية بث الكراهيّة، ولو تمت بصورة عبثية تستخف بالضوابط الأخلاقية والقيمية للأخوة الإنسانية، تحت شعار حرية التعبير، فجادل رجل الدين المعمم، بلغة عصر التنوير كوريث لمنجزات الحضارة الإنسانية، من يفترض أنه الوصي على تنفيذ منتجاتها من الموقع الدستوري والسياسي، بعدما ارتضى أن يتحول إلى قائد جيش في الحرب الصليبية أو رئيس غرفة من غرف محاكم تفتيش.
– كلام السيد حسن نصرلله في ما تشهده علاقة المسلمين والجاليات الإسلامية بالقضايا المثارة على مساحة أوروبا من وحي قضية الرسوم المسيئة للرسول والجرائم الإرهابية المتذرّعة بها، مرافعة فلسفية عقلانية تستعيد روح عصر التنوير والاحتكام للعقل، والحل الذي تبنّاه ختاماً لمرافعته، مستعيداً مقترح الأزهر بتشريع عالمي لتحريم النيل من المقدسات، حجر متعدد الأهداف في يوم الوحدة الإسلامية، بينما يتساءل بعض رجال القانون في فرنسا، لماذا لا تتم محاكمة أصحاب الرسوم المسيئة للرسول تحت بند العداء للسامية، أليس الرسول من أحفاد سام بن نوح، وقد روى الترمذي أن الرسول هو القائل بأن “سام أبو العرب ويافث أبو الروم وحام أبو الحبش”؟