الوقت المهدور في الوطن المنكوب
غالب قنديل
لا يبدو السياسيون في عجلة من أمرهم ولا في اللهفة، التي يزعمون أنها تقضّ مضاجعهم لإيجاد الحلول والتوافقات الكفيلة بتخطّي مأزق سياسي اقتصادي اجتماعي. هم يتفنّنون في إخبارنا عن درجة تعقيده ومضاعفاته المرتقبة.
أولا: بكلّ بساطة يستولد أهلُ النظام المشاكل والأزمات، ويعرقلون التوافقات الممكنة وتشكيل الحكومات لخلاف على حصة من هنا أو هناك. ولم نرهم يوما يتجادلون في البرامج والمشاريع. فلم يسبق أن خاض ايّ منهم معركة سياسية خارج التآمر على المقاومة وعلى الاستقلال الوطني. ولم يسبق للزعامات المستنفرة في وجه المقاومة أن نَقَحت عليها كرامتُها في استباحة الأجنبي لكل شيء، وهو اليوم يستبيح الأعراف والتقاليد السياسية، التي طالما تغنّوا بتمامها وكمالها حتى ظننّا أننا في جمهورية أفلاطون. وحين تروح السَّكرة وتحين الفكرة نكتشف في أي فضيحة نحن، لنسمّيها نظاما، هو في الواقع نظام الخيبات المتجدّدة والوعود الكاذبة والمشاريع الفاشلة والمأزق المتجدّد.
لا تستر عورة هذا النظام الطائفي كلّ خطابات التكاذب عن الوحدة الوطنية، ولا تشفع للعبة المحاصّة والتقاسم الطائفي آلاف المباريات، التي يشرف عليها أساتذة جامعيون وخبراء في علوم الإدارة، لترسَخ في دهاليز الإدارة سلالات المحسوبية والتحاصّ الأشدّ بشاعة في ما نعرفه عن مآثر دول التحاصّ وتقاسم النهب في العالم، وقد تخطينا سقوفها جميعا بنموذجنا “الفريد”.
ثانيا: نحن اليوم عالقون على حدّ السكين، وقد غار النصل في الوريد، والنزف يتواصل والبلد معلّق، ولدى أهل النظام كاملُ الأهلية العصبية والنفسية لإبقاء البلد في حال انتظار. لعبة التقاسم والإذعان للإملاءات الأجنبية لم تبلغ نهاياتها المنشودة. وترْك البلد ينزُّ من وريده المثقوب شهقاتِ الحياة الباقية في عروقه لا يزعج خواطر المتحكّمين باللعبة الطائفية، والنظام الذي تعفّن وتقيّح الى درجة تثير الغثيان. ولم يعد لخطب التهييج أيّ جاذبية أو فعلٍ سياسي، لكنّ إذعان القطعان للغرائز والعصبيات تأصّل في شوارعنا على حساب الحسّ الوطني والمسؤولية الوطنية، والوعي الذي لا بدّ منه، أمام ما يُدبّر لبلدنا وشعبنا من كوارث وأهوال.
أمِلنا كثيرا وراهنّا أحيانا على صحوة الوعي الشعبي من سَكرة العصبيات وأوهام التقاسم، التي لم تهدأ في فورانها، حتى عندما دخلنا عهد النضوب. فالبلد اليوم مُتَناهشٌ عليه، وهو شبه جثّة هالكة ونافقة، لكنّ مَن كان يسميهم الراحل فؤاد شهاب بأَكلة الجبنة، لا يأنفون من جيفة أو عفن، ويطالبون بحصّتهم من المنهوش في جسد الناس والوطن وهياكل الدولة الممنوعة. بكل بساطة نحن دولة ممنوعة من الوجود خاضعة لهيمنة خارجية سافرة، ومفتوحة لنهبٍ أجنبي لا حدّ له، ولو جاع البلد كلّه وصارت عظام اللبنانيين مكاحل.
ثالثا: في لبنان مقاومة شريفة، بذلت الغالي والنفيس دفاعا عن شعبها، وعن سيادة وطنها، وبعض اللبنانيين تآمروا عليها، وما يزالون حتى الساعة، لا يوفرون وسيلة في استهدافها، والسعي الى النّيل منها، فالاستقواء بالأجنبي هو هوايتهم المفضّلة منذ الاجتياح الصهيوني عام 1982. ويكفي للباحث أن يستعيد يوميات الصحف في الأرشيف، ويراجع الأعداد القديمة ليتابع تفاصيل الاستقواء بالأجنبي ضدّ المقاومة الوطنية والشعبية، وليشهد مفردات الخيانة والتآمر في تطورها لحظةً بلحظة، وليعدَّ لائحة بأبطال التآمر ورواد الاستخذاء للأجنبي وللمحتل الصهيوني على حساب البلد والناس والمقاومة.
نسجّل هذه الوقائع ردّا على جميع من يتنافخون شرفا هذه الأيام، ويتنصّلون من ارتهانهم للأجنبي وأحلامه بالهيمنة اللصوصية والنهب، ولنقول لجميع الوطنيين أنه آن الأوان لصحوة فكرية ثقافية وطنية، تعيد رصّ الصفوف وتُعلي راية التحرّر بعيدا عن العصبيات الطائفية والمذهبية ومفردات التّخندق البشع والكريه، الذي أعرَبَ الوطنيين على تخوم العصبيات، فأجهض قوتهم، وحدّ من مقدّراتهم، وباتوا لا يختلفون عن غيرهم بالمِيزة، التي حملوها منذ ظهورهم في الواقع السياسي، ليصير إعرابهم كسواهم في جداول العصبيات ومواقع التمثيل الطائفي والمذهبي.
أيها الوطنيون من جميع المواقع والمشارب، عليكم واجب انتفاضة على الذات، للخروج من قوقعة العصبيات، ولشقّ الطريق الى انتفاضة وعي وطني، تنتشل البلد وواقعه السياسي من سرطان الطائفية المتعفّنة. ردّوا الاعتبار الى الاستقطاب والتجميع على أساس القضايا والبرامج، التي جمعتكم أصلا، وليس على أساس المذهب أو الطائفة أو الحصّة. فليبقَ منكم ،حيث هم، جميع المنخرطين في إدارة “اللعبة السياسية”. ولكن آن الأوان الآنَ الأنَ وليس غدا للعودة الى الجذور، الى ما هو وطني ونبيل وبعيد عن العصبيات المذهبية والطائفية، وستجدون في صفوفكم قوة هادرة قلّ نظيرها إن استنهضتم ذلك الحسّ الوطني، وأخرجتم روح التغيير، واستلهمتم النماذج المشرقة في تاريخ الوطن، وخلاف ذلك تذهبون الى انتحار مقيت.