مخاض الدولة الوطنيّة العربيّة ـ مناقشة لمقالة رضوان السيّد: ناصر قنديل
– في مقالة نادرة له يبذل الدكتور رضوان السيد جهداً واضحاً لاستعادة اللغة التي كان يكتب بها قبل عقدين وأكثر، متفادياً ذكر السعودية وملوكها كرموز لمشروع قومي عربي جديد، ومحاذراً تسمية إيران بهدف شيطنتها، ومبتعداً عن تناول المقاومة في لبنان وفلسطين وتسمية حركاتها وأحزابها، إلا بصفتها ميليشيات، وذلك ليمنح مقالته عن اندثار الدولة الوطنية العربية، صفة المقالة النظريّة، التي تحاول مجرد التفسير الموضوعي لظاهرة تاريخية، يستخلص بنتيجتها أن الاستبداد والفساد هما السوسة التي نخرت مشروع الدولة الوطنية العربية، ليبرر سقوط الدولة، وأحادية الشأن المعيشي، وسقوط القضايا الكبرى وزمانها، وفي الطليعة منها قضية فلسطين طبعاً، والدكتور السيد يتناسى أن ما يتحدث عنه من سقوط هو بلا شك أحد وجوه سقوط السلطة وليس الدولة، ليس في البلاد العربية فقط بل في كل بلد من بلاد العالم، والمثال الحي على ذلك هو الفارق بين دول عربية تتجه نحو التفكك ليست بينها سورية التي يزجها الدكتور السيد مثالاً لنظريته، ولا بينها مصر حيث كان النموذج الأهم لمرحلة صعود الدولة الوطنية العربية، رغم ما يعانيه المجتمع، وضعف مشروع الدولة في الاستجابة للتحديات الوطنية والقومية.
– يغيب عن الدكتور رضوان السيد التمييز بين سقوط الدولة وسقوط السلطة، التي تشكل سيطرة نخبة سياسية أو عسكرية على مقاليد الحكم عنوانها، وهو دائماً عرضة للاستبدال بالتغيير السلمي أو الثورات المسلحة، من دون أن يشكل سقوطها سقوطاً للدولة، لأن سقوط الدولة شأن آخر، فهو يعني التفكك الوطني والاجتماعي، وغياب المشروع الجامع وقواه الحاملة، وأهدافه التي تحظى بشبه إجماع تلتف حولها شرائح المجتمع، كما كان الحال في مطلع القرن مع تفكك الإمبراطورية العثمانية، حيث نهض مشروع الدولة الوطنية على قاعدة بناء مقومات الاستقلال. وفي الخمسينيّات من القرن الماضي حيث تولّت النخب العسكرية قيادة مشروع الدولة الوطنية تحت عنواني فلسطين والوحدة، وما يجري في العالم العربي اليوم هو مخاض الدولة الوطنية العربية التي فشلت في حل المسألتين الوطنية والقومية، أي قضيتي فلسطين والوحدة، ربما كما كان يقول الدكتور السيد، في ما مضى.
– فجأة يحضر عند الدكتور السيد المشهد في ليبيا، حيث تخرج التظاهرات في طرابلس وتقع الاشتباكات بين الميليشيات، مع معادلته الهادفة للقول إن السياسة هي التي تسقط وإن الشأن المعيشي هو المحرك الوحيد المتبقي، متجاهلاً طبيعة الصراع الدائر في ليبيا بين مشروعين ملتبسين مستندين على عمق شعبي قبلي متنافر، مشروع سقفه التخلف والاستبداد والتبعية التي تمثلها دول الخليج، ومشروع سقفه مشروع الأخوان المسلمين الذي تقوده تركيا، كعضو في الأطلسي وداعم للإرهاب كما تقول تجربة سورية، ومثلما تلتقي المرجعيتان الخليجية والتركية على التبعية لواشنطن تلتقيان على دعم الإرهاب بعناوين مختلفة، وتلتقيان على التطبيع مع “إسرائيل”، الذي ربما يكون تبسيط الترويج لتعميمه يستدعي الحديث عن سقوط السياسة والقضايا، من بوابة سقوط الدولة الوطنية، حيث سقوط الدولة الوطنية بمعناه العميق، أي تفكك الكيان السياسي والوحدة الاجتماعية، احتمال قائم لكن لاعتبارات أخرى تتصل بشروط العقد الاجتماعي المشوّه الذي بقي عاجزاً عن تشكيل إطار جامع قابل للحياة لمكوّنات الكيان الحديث الولادة، وهذا هو الحال في ليبيا وفي لبنان أيضاً.
– ببساطة يتماهى المشهد الليبي عند الدكتور السيد مع المشهد السوري، حيث الدولة الوطنية شكلت بصمودها مفاجأة القرن الحادي والعشرين بنجاحها في مواجهة حشدت فيها الدول مخابراتها وجيوشها وأموالها وفتاويها وإعلامها، واستعادت الدولة زمام المبادرة، وحيث لا يمكن تجاهل أن التفاوت بين ما أظهرته الدولة في سورية من قدرة صمود ونهوض مقارنة بتفكك سواها، عائد لنجاحها في تمثيل مرجعية ذات مصداقية في القضيتين الوطنية والقومية، ولذلك لا يمكن أن تتشابه في سورية تظاهرات الحسكة بوجه الاحتلالين التركي والأميركي، ولو خالطها الشأن المعيشي، مع تظاهرات درعا، المموّلة من دول الخليج، ولو تداخل في بعض جوانب عناوينها شأن معيشي، وكل متبصّر يستطيع إدراك أن مشروع الدولة الوطنية العربية، قد نجا بنسخته السورية من مشاريع الفوضى الخلاقة المدمرة التي أطلقتها السياسات الأميركية علناً تحت شعار شرق أوسط كبير بشرت به غونداليسا رايس من منبر رئيس حكومة لبنان الأسبق، صديق الدكتور السيد، الرئيس فؤاد السنيورة، أثناء حرب تموز 2006، التي هزمت خلالها القوة الإسرائيلية، وفشل خلالها المشروع الأميركي، ليس لأن ميليشيا وقفت قبالته، بل لأن المشروع الأميركي الإسرائيلي واجه مقاومة وطنية مخلصة وذات مصداقية ورثت مهام الدولة الوطنية، التي عجزت منذ ولادتها عن التصدي لمسؤولياتها في حماية الحدود.
– في لبنان الذي يحتفل بمئوية ولادته الحديثة، مأزق تاريخي نسي الدكتور السيد ما كتب عنه قبل قرابة نصف قرن، ومشروع الدولة الوطنية ولد مأزوماً لأسباب لا تتصل بالفساد ولا بالاستبداد اللذين يردان كنتائج لهذه الأزمة البنيوية لمشروع الدولة الوطنية، وفقاً لما كتبه مفكرون لبنانيون متعددو الاتجاهات، كان أبرزهم المفكر جورج نقاش الذي وصف اللاءين اللذين قامت عليهما صيغة 1943 برفض الوحدة مع سورية مقابل رفض الوصاية الفرنسية بالنفيين اللذين لا يبنيان وطناً، وحيث أزمة لبنان هي في سقوط كذبة الحياد، القديمة المتجددة، باعتبارها تحمي لبنان، تحت شعار قوة لبنان في ضعفه، عندما زجّ الأميركيون لبنان في حلف بغداد أيام الرئيس كميل شمعون في الخمسينيّات من القرن الماضي واستعملوا لبنان في معركتهم مع مشروع الدولة الوطنية العربية الأولى الذي مثلته مصر بقيادة الرئيس جمال عبد الناصر، ما استدعى من البطريرك الماروني بولس المعوشي التصدّي لجموح الرئاسة يومها، وتأييد موقف الزعيم العربي جمال عبد الناصر وتغطية انضواء الرئيس فؤاد شهاب تحت رايته، وتكرّس السقوط لفكرة دولة الحياد مجدداً مع هزيمة المشروع الناصري كرمز للدولة الوطنية العربية في حرب 1967، وصولاً إلى عجز دولة الحياد عن حماية لبنان وبيروت من الاجتياح الإسرائيلي عام 1982 ثم فشلها في استرداده من براثن الاحتلال، حيث نجحت المقاومة، والمقاومة وحدها، كعنوان لإعادة تأسيس مفهوم للدولة الوطنية، التي تتشكّل أصلاً على قاعدة تحقيق السيادة، ولا يزال المخاض اللبناني مستمراً، لأن لبنان المؤسس قبل مئة عام على نظريتي التوافق والتقاسم الطائفيين والحياد عن المواجهة مع “إسرائيل”، قد فقد قدميه مرتين، وباتت الولادة أشد عسراً من دون موازين جديدة وصياغات جديدة لمفهوم الدولة.
– يخلط الدكتور السيد، عباس بدباس، لأنه لا يريد أن ينظر للدور السعودي في ضرب التجربة القيادية لمشروع الدولة الوطنية العربية التي كان يرمز إليها مشروع جمال عبد الناصر، ويريد إنكار حقيقة أنه منذ ذلك اليوم الذي نجحت فيه السعودية في ضرب المشروع الناصري، وصولاً لحرب عام 67، بقيت في المنطقة محاولات حفاظ على الحد الأدنى من مقومات الدولة الوطنية المخلصة لمسؤولياتها، كانت تتقدمها سورية، ومقابلها ظواهر التحاق فوق الطاولة وتحت الطاولة بالمال السعودي، مقابل التخلي عن مسؤوليات الدولة الوطنية، ومثلما تفككت مشاريع الدولة الوطنية حيث كان الالتحاق بالسعودية تحت الطاولة أو فوقها، وتفككت الثورات الملونة التي قامت على الركيزة ذاتها، ثبتت الدولة الوطنية وصمدت، حيث حافظت على الحد الأدنى من مقومات دورها القائم أصلاً على مفهوم الاستقلال الوطني، ولذلك خيضت عليها الحروب لاجتثاث آخر بقايا مفهوم الدولة، وانتصارها برمزها الذي تمثله سورية، هو بشارة خير لنهضة وقيامة هذا المشروع للدولة الوطنية، بوجه مشاريع التطبيع مع “إسرائيل”، في زمن يعرف الدكتور السيد، أنه زمن أفول الأحادية الأميركية، والتفوق الإسرائيلي، بمثل ما هو زمن حضور المقاومة وقوتها الرادعة، وفي هذه الحرب الخشنة، اليد العليا للمقاومة، وفي الحروب الناعمة يراد للشيطنة أن تبشر باليأس، كنسخة منقحة مستسلمة لدولة مسخ تسمّى زورا بالوطنية، تحت شعار كل شيء سقط إلا التطبيع فقط، لتقول طبعوا والله ولي التوفيق، ولا تنسوا الدعاء بطول العمر لولي الأمر، وستصلكم تباعاً شحنات حليب الأطفال والحفاضات، وربما الأمونيوم لضرورات لوجستية تحاربون به عدو الله وعدوكم، كما حال الميليشيات الإرهابية التي دمرت سورية برعاية ولاة الأمر، وعندما تنتهي المهمة يمكن لاستخدام تفجيره ان يمنح فرصة تحقيق ما فشل تحقيقه بتفجير سابق والتحقيق ممكن بواسطة “التحقيق” الدولي مرتين، وصولاً لرأس يوحنا المعمدان نقدمه على طبق من ذهب الحياد لسالومي، علها تقدم رقصة فاتنة على طاولة الأمير في زمن “الانفتاح” والتطبيع.