النمط المتبدّل الذي بات يتحكَّم بقرارات العدو عمر معربوني
تدل مجموعة من آراء قادة العدو وخبرائه على النمط المتبدّل الذي بات يتحكَّم بقراراته في ما يرتبط بشنّ الحروب الاستباقية.
في حين يبدو بنيامين نتنياهو متحمّساً لتوجيه ضربة استباقية إلى حزب الله والمقاومة الفلسطينية، فإنه أيضاً يبدو غير متأكّد من بقاء الكيان واستمراره، حين يقول: “سأجتهد لأن تبلغ إسرائيل عيد ميلادها المائة، لكن هذا ليس بديهياً، فالتاريخ يعلّمنا أنّه لم تعمّر دولة للشعب اليهودي أكثر من 80 سنة، وهي دولة الحشمونائيم“.
إنّ كلام نتنياهو يندرج في الجانب الإيديولوجيّ، وهو انعكاس للأفكار التلمودية. وبمعزل عن صدقه، فإنّه في مكان ما يخدم حالة الصراع، ويقدّم لقوى المقاومة مادّة تحفيزية وتأكيدية في الوقت نفسه لاستمرار حالة المجابهة وتوفير ما يلزمها من الشروط لتحقيق الغَلَبة والانتصار.
كلام نتنياهو يؤكّده المؤرّخ الإسرائيلي بيني موريس، إذ يقول: “خلال سنوات، سينتصر العرب والمسلمون، ويكون اليهود أقلية في هذه الأرض، إما مُطاردة وإما مقتولة، وصاحب الحظ هو من يستطيع الهرب إلى أميركا وأوروبا“.
وعلى أهمية كلام نتنياهو وبيني موريس، يبقى أن أشير إلى أقوال عدد من قادة العدو، تندرج في البعد الواقعي المنطلق من تجاربهم المباشرة، حيث تولى معظمهم مناصب حساسة ومهمة.
يقول رئيس جهاز الشاباك السابق كارمي غيلون: “إنّ استمرار السياسات المتطرّفة ضد المسجد الأقصى سيقود إلى حرب يأجوج ومأجوج ضد الشعب اليهودي، وسيقود إلى خراب إسرائيل”، وهو كلام يؤكّده رئيس جهاز الموساد العاشر، مئير داغان، الذي قال إنَّه يشعر بخطر على ضياع الحلم الصهيوني.
كذلك، يقول روني دانييل، وهو المحلل العسكري في القناة العبرية الثانية، إنه غير مطمئن إلى أنّ أولاده سيكون لهم مستقبل في “إسرائيل”، وأنهم سيغادرونها عاجلاً أم آجلاً.
أفراييم هيلفي، رئيس جهاز الموساد السابق، يقول أيضاً: “نحن على أبواب كارثة. إنه ظلام ما قبل الهاوية“.
وإذا ما أردت استكمال الاستشهاد بأقوال خبراء العدو وباحثيه وقياداته، فإن الأمر سيطول، وسيستغرق مئات الصفحات، ولكنّني سأكتفي بذكر وتفصيل ما قاله لواء الاحتياط يعقوب عميدرور، مستشار الأمن القومي لنتنياهو، وهو يميني الاتجاه، ويُعرف بمتانة علاقته مع الأميركيين، وله رأي مختلف عن القادة الحاليين في كيان الاحتلال حول مفهوم وجدوى الضربات الاستباقية التي يفكّر فيها قادة العدو، والتي تقوم على توجيه ضربات قاسية، من دون الذهاب إلى مواجهة شاملة، وهو ما يعارضه عميدرور، إذ يقول إنَّ قيادة الكيان ارتكبت خطأين استراتيجيين كبيرين، سمحا لحزب الله بأن يتحوّل إلى قوّة ردع، لا بل قوّة إقليمية، إذ يقول إن الخطأ الأول كان ترك الحزب يتنامى بعد انسحاب الجيش الصهيوني من لبنان في العام 2000، والخطأ الثاني هو عدم الإصرار على تنفيذ كامل مضمون القرار 1701.
ويقول حرفياً: “الآن نمت قوة حزب الله بدرجة في غاية الخطورة. سندفع ثمناً باهظاً للغاية، إذ سمحنا له بامتلاك هذا العدد الكبير من الصواريخ والقذائف الدقيقة التوجيه، فنحن بلد صغير، ولدينا مزايا قليلة للغاية. لذلك، لا يمكننا ارتكاب هذا الخطأ. نحن الآن في لحظة فاصلة، ويجب أن نكون مستعدين لتحمّل كلفة الهجوم الاستباقي إذا اتضح أنَّ حزب الله لديه في الواقع قدرات جديدة لم تكن موجودة لديه في الماضي، ومن شأنها أن تُحدث تحولاً جذرياً في ميزان القوى. وحالما يمتلك هذا الوحش قدرات استثنائية، فسنصبح في مواجهة حاسمة، ولا ينبغي أن نسمح بحدوث ذلك تحت أيّ ظرف“.
أمّا وقد استعرضتُ بعض آراء قيادة العدو، فمن المهم جداً الإشارة إلى التحولات الكبرى والجذرية التي حصلت على مستوى المنطقة، وباتت تمنعه من المغامرة والذهاب بعيداً في التورط بمواجهة شاملة، حيث تخضع قواعد الاشتباك الحالية لميزان قوى، بات خطه البياني صاعداً بالنسبة إلى قوى محور المقاومة، وهابطاً بالنسبة إلى محور العدوان.
إنّ المواجهة الحالية لم تعد محصورة بجبهة واحدة، ولا بقضية واحدة، وإن كانت قوى العدوان قد أطلقت كل معاركها من اليمن إلى العراق وسوريا ولبنان، بهدف إنهاء القضية الفلسطينية، واستكمال تفتيت المنطقة، وتثبيت الهيمنة على ثرواتها ومقدّراتها.
على المستوى السياسيّ، لا بدّ من التذكير بأنَّ قوى محور المقاومة باتت متناغمة أكثر من أي وقت مضى، وأعلنت على لسان كل قادتها أنها ستخوض المواجهة في بعدها الشامل موحّدة، وعلى جبهات التّماس الجغرافي الثلاث، في غزة ولبنان وسوريا، إضافة إلى مشاركة باقي قوى المحور، التي ستكون مشاركتها مختلفة، لكنها ستكون مجدية ومؤثّرة.
ففي اليمن، يمكن للجيش واللجان عند حصول المواجهة الشاملة إغلاق مضيق باب المندب وتعطيل الملاحة البحرية فيه، حيث تستطيع صواريخ أرض – بحر الّتي يملكها الجيش اليمني تغطية كامل مساحة مدخل المضيق، وهو ما سيؤدي إلى تطويق كيان العدو بحرياً، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار صواريخ أرض – بحر التي تمتلكها المقاومة في لبنان، والتي يتخوف العدو من أن تكون صواريخ “ياخونت” الدقيقة ذات المدى البعيد من ضمنها، وهو ما تستند تقديرات الاستخبارات المعادية فيه إلى قول السيد نصرالله إن إغلاق كامل المجال البحري لفلسطين المحتلة قائمٌ ومتاح.
أما العراق الَّذي لا يمتلك حدوداً برية مع فلسطين المحتلة، فيمكن لفصائل المقاومة فيه أن تساهم برفد الجبهات الثلاث بالعديد البشري، إضافة إلى وقوع تل أبيب ومدن أخرى تحت مرمى صواريخ المقاومة العراقية.
ثمة أمرٌ آخر يتعلَّق بالبعد الاستخباراتي، لا يجوز استبعاده في أي مقاربة لاحتمالات وقوع المواجهة الشاملة وتأخّرها، وهو العجز الاستخباراتي الاستراتيجي للعدو وعدم تمكّنه من وضع بنك أهداف يرتبط بالصواريخ بعيدة المدى ومراكز القيادة والسيطرة، وإن كان العدو بين الفينة والأخرى يقوم في سوريا تحديداً باستهداف بعض المواقع التي يدّعي أنها مراكز إيرانية، وأنه بات على مشارف إنهاء القدرات العلمية السورية والإيرانية المرتبطة بالصواريخ الدقيقة تحديداً.
أمام هذا الوضع وهذه الوقائع، يبدو ثابتاً عنوان المرحلة منذ ما بعد مواجهة 2006 في لبنان، وهو أنَّ طرفي الصّراع لا يريدان حصول المواجهة الشاملة، فالصهاينة يريدونها الآن، لكنهم يخشونها ويتردَّدون في إشعال فتيلها، وقوى محور المقاومة في ظلّ الظروف الضاغطة، في ما يرتبط باستكمال المعركة بمواجهة الإرهاب والضّغوط الاقتصاديّة، لا تريد وقوع هذه المواجهة، لكنَّها لا تخشاها.
وفي الختام، لا بدّ من القول إن الطرفين لا يريدان وقوع المواجهة، لكنها يمكن أن تندلع في أي لحظة، لأي سبب ولأصغر خطأ، فالجميع يتحرَّك في أجواء مشحونة بالتوتر، وهو ما يزيد من مساحة الاحتكاك والأخطاء وعدم القدرة على السيطرة على لحظة الانفجار.
كاتب وباحث في الشؤون العسكرية خريج الأكاديمية العسكرية السوفياتية .