أزمة كورونا وبعض دروسها
غالب قنديل
لا يجب أن تمر التجربة اللبنانية في محنة كورونا من غير استخراج بعض الدروس والعبر فيتم هدر فرصة جديدة كما حصل مع العديد من قبلها وفي مجابهة تحديات متعددة حيث واصل معظم الساسة والإعلاميين اجترار خطبهم وبديهياتهم المزعومة من غير أي حساب لما برهنت عليه التجربة من الدروس والعبر التي تفرض نفسها على أي عاقل يبحث في كيفية التصحيح المستمر لنظرته إلى الشؤون العامة في ضوء التجارب.
أولا ان تعنت البعض وتمسكهم بمواقف وتصورات معينة يعود إلى ضغط مصالحهم وارتباطاتهم الداخلية والخارجية وما تمليه وليس بالضرورة نتيجة تشبث برأي محدد من الوجهة المنطقية ومن هذا القبيل أسقط الوباء كذبة معمرة في لبنان عن إعلاء الفردانية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية على حساب كل ما هو عام أو جماعي وقد شهدنا في ظل النموذج الريعي المنهارالذي قام بعد الطائف تسفيها وتحقيرا لمفهوم الخدمة العامة وترويجا لمفاهيم طغت على العالم مع موجة النيوليبرالية التي فقدت سحرها وشرشحها تحدي انتشار الوباء في عرينها الولايات المتحدة واوروبا الغربية بينما تألقت قوة نقيضها المباشر وردت الاعتبار لفكرة دولة الرعاية.
ثانيا برهنت المحنة على اهمية المستشفيات الحكومية وأكدت بالتالي على أنه ينبغي اعتبارها العامود الفقري لمنظومة الرعاية الصحية في الأحوال العادية وليس فحسب في ظروف التهديد الوبائي حيث تبين أنها المرجع الأهم والأنشط والأفعل ويمكن اذا استرجعنا التكاليف الفعلية التي أنفقت خلال ثلاثين سنة على منظومتنا الصحية الهجينة والفاشلة من خلال ما يسمى بالتقديمات الصحية وصناديق المساعدة من الموازنات العامة والمبالغ التي صرف معظمها للمستشفيات الخاصة لوجدنا وقائع مذهلة تؤكد رأي القائلين أنه يمكن بالكلفة ذاتها بل وبأقل منها بكثير ضمان خدمات صحية شاملة لجميع اللبنانيين بدون استثناء والطبيعي اليوم أن نفكر في تلك الحاجة الصحية باعتبار تدهور الحالة الاقتصادية والمالية وتراجع القدرة الشرائية.
ثالثا المستشفيات العامة والمختبرات الوطنية العامة وفرص تطوير البحث العلمي والتكنولوجي والتصدي لمحتكري الدواء وتعزيز الصاناعت الوطنية للأدوية والمعدات الطبية وتنميتها وتنويع مصادر الاستيراد الضروري بناء على معدلات الكلفة والنوعية هي عناوين الإصلاح العاجل للنظام الصحي الذي سيوفر المليارات التي يمكن إعادة توظيفها في التطوير والتاهيل بعدما برهنت المحنة مجددا على وجود كادرات طبية وتقنية مبدعة تمتلك القدرة على الابتكار والتصنيع وتحتاج إلى الرعاية والفرص وهي تمثل مصادر قوة ومناعة لايستهان بها وهذا يدعو إلى الاهتمام الحاسم بالجامعة اللبنانية وكلياتها التطبيقية المرتبطة بالخدمات الصحية والتمريض وبتصنيع الأجهزة الطبية والأدوات المخبرية وادوات الوقاية والحماية.
رابعا كانت الأزمة الاقتصادية والمعيشية قبل كورونا قد كشفت الحاجة لتقوية التعليم العام الذي جرى تخريبه لصالح المدارس الخاصة رغم سمعته الممتازة قبل تضخم النموذج المشوه واللصوصي للنظام اللبناني منذ انطلاق العهد الإعماري وفقا لخطة اطلقتها استشارة اميركية بعد حرب السنتين في سبعينيات القرن الماضي وقد احتل ممثلوها المركز التربوي وتحكموا بالسياسات التعليمية العليا في البلد وتفننوا في الغزل بمزايا الجامعات الخاصة والمدارس الخاصة ونشروا صورة مشوهة ومعايير ممسوخة عمدا للتخلص من الخدمات التعليمية والتربوية الوطنية العامة.
خامسا تتضح بقوة أيضا اهمية الإعلام العام وضرورة إلزام الإعلام الخاص بمفهوم الخدمة العامة كما برهنت تجربة التصدي لوباء الكورونا وقد بدا واضحا أن الاستثمار السياسي للظرف وتحدياته من قبل بعض الوسائل الإعلامية المتفلتة التي انساقت في مناكفة عمياء ضد الحكومة وتدابيرها الوقائية وسع من هوامش تفشي الوباء وضاعف الإصابات المسجلة في لبنان وأضعف التضامن الوطني ولو تحقق تماسك وتناغم إعلامي منذ البداية لحقق مناعة مرتفعة ووفر العديد من الإصابات والخسائر على المجتمع والاقتصاد معا.