محنة الحزب الديموقراطي قيادة تقليدية وقاعدة تقدمية تنشد التغيير د.منذر سليمان
دشن الحزب الديموقراطي بدء موسم الانتخابات الرئاسية بالاضطراب والبلبلة في واحدة من أصغر الولايات لناحية الكثافة السكانية، أيوا، تلاها اتهامات متعددة لقيادات الحزب المركزية لتدخلها في آلية ونتائج الانتخابات لترجيح كفة مرشحها الأفضل، بيت بوتيجيج على حساب المرشح، بيرني ساندرز، المناهض بشدة لهيلاري كلينتون.
المؤرخون للانتخابات الأميركية يرجحون دخول الجولة الأولى من الانتخابات لعام 2020 في سجلات التاريخ تحت عنوان “كارثة أيوا الكبرى،” حيث لم تعلن النتائج الرسمية إلا بعد مضي بضعة أيام، مما ترك الباب واسعاً أمام التكهنات بالتلاعب بنتائجها والتي لها ما يبررها وفق المعطيات المتوفرة.
سنسلط الضوء على الحلقة المركزية المغيبة في الصراع بين قيادات الحزب الديموقراطي وقواعده الغاضبة من سلسلة قرارات خاطئة وأحياناً كارثية، لا سيما في مسائل الحرب ودعم الأولى لموازنات عسكرية غير مسبوقة على حساب تقويض “دولة الرعاية الاجتماعية،” التي ميزت هوية الحزب منذ عقد الستينيات من القرن المنصرم، والموافقة على تمويل جدار ترامب العازل على الحدود المشتركة مع المكسيك.
الحزب الديموقراطي يتراجع – تسانده وسائل الإعلام التقليدية المؤيده له- عن مواقفه التاريخية اجتماعياً واقتصادياً، ويتشبث بتوازن القوى الحاكمة بين الحزبين، كأولوية، حتى لو كلفه ذلك خسارة الانتخابات الرئاسية. قد تبدو تلك المسألة صادمة وقاسية، وهي كذلك، لكن هناك ما يبررها في سياق تاريخ الحزب.
أضحى من ثوابت التاريخ الماضي القريب أن قيادات الحزب وقفت مراراً سداً منيعاً أمام مرشح ديموقراطي قوي يناهض الحرب والإنفاقات العسكرية وكذلك المغامرات الخارجية؛ أبرزها مرشح الحزب عام 1968 يوجين مكارثي الذي عارض استمرار حرب فيتنام بشدة وأسقطه الحزب في مؤتمره العام لصالح “المؤسساتي” ونائب الرئيس الأسبق هيوبرت همفري – وخسر الحزب الانتخابات لصالح الجمهوري ريتشارد نيكسون.
في الجولة التالية لعام 1972، وفي أوج الاحتجاجات والمظاهرات الطلابية الشاملة ضد استمرار الحرب في فيتنام، تقدم السيناتور جورج ماكغفرن كمرشح للحزب بدعم شعبي كبير، أيضا وفق برنامج مناهض للحرب والخروج من فييتنام. خسر المرشح الانتخابات بنسبة عالية لخصمه نيكسون معبراً عن مرارة خداعه بالقول “فَتحتُ الأبواب على مصراعيها للحزب الديموقراطي، (وكوفئت) بمغادرة 20 مليون شخص،” في إشارة إلى التحاق وتسجيل أعداد كبيرة من الناخبين للحزب الديموقراطي وتأييدها برنامجه الانتخابي وفي الجولة الراهنة، ضخت وسائل الإعلام كماً هائلاً من التحشيد السياسي لصالح مرشح مرغوب أُطلق عليه التصويت “لأي مرشح باستثناء بيرني” ساندرز؛ وجاءت النتائج المعلنة بالتساوق مع توجهات قيادات الحزب بأن فاز مرشحها بيت بوتيجيج في ولاية محافظة رغم مناهضة جماعيه هناك لميوله الجنسية، فضلاً عن ضحالة خبرته السياسية.
توالت النتائج تباعاً لتضع بوتيجيج في المرتبة الأولى، وهو الآتي من فريق كبريات الشركات، ماكينزي للاستشارات؛ بينما أرجئت نتائج دوائر الكثافة السكانية الميالة لساندرز لوقت لاحق، لا سيما في محافظة العاصمة دي موين. وتضاربت النتائج لاحقاً مما حفز يومية نيويورك تايمز على توصيف العملية الانتخابية التي أشرف عليها الحزب الديموقراطي بانها “مصابة بالتناقض والأخطاء .. ومزقتها الثغرات.” “التناقض والاخطاء” في إدارة العملية الانتخابية دفعت رئيس الحزب، توم بيريز، المختار شخصيا من الرئيس أوباما، إلى مطالبة لجان الولاية الحزبية “بإعادة الحسابات على الفور؛” وما لبث أن ناقض نفسه بعد نحو 10 ساعات قائلاَ أن ما يريده هو “إعادة تقييم جراحية للدوائر (الانتخابية) التي شهدت ثغرات.”
ستقترن سمعة ولاية أيوا ليس بالاضطراب والبلبة فحسب، بل بشركتي “آكرونيم و شادو Acronym & Shadow،” اللتان انتجتا وسوقتا البرنامج الالكتروني لنقل نتائج تصويت الدوائر الانتخابية عبر برنامج يطبق على الهاتف. والنتيجة “تعطل” شامل أصاب شبكتي الهاتف المحمول وبرنامج التطبيق معاً.
تجدر الإشارة إلى أن تارا ماكغووان Tara McGowan، إحدى مؤسسي شركة “آكرونيم،” هي زوجة مايكل هالي، المستشار السياسي للمرشح بوتيجيج. ويضم مجلس إدارة الشركة المدير السابق لحملة الرئيس أوباما الانتخابية، ديفيد بلوف David Plouffe. أما شركة شادو فلديها عقد عمل مع حملتي بوتيجيج وبايدن الانتخابيتين منذ عام 2019.
من ضمن ما أشّرت عليه تجربة ولاية أيوا ليس انكشاف آليات التزوير المتطورة والمعقدة فحسب، بل تقادم لوائح النظام الانتخابي التي بلورتها قيادات الحزب في عقد الثمانينيات من القرن الماضي، نتيجة هزيمتها المدوية بخسارتها الانتخابات أمام الجمهوريين رونالد ريغان وجورج بوش الأب لعقد ونيف.
بلور “المجلس الديموقراطي القيادي” خطة عمل جديدة هي أقرب للتماثل مع برامج الحزب الجمهوري المنافس، وابتعاداً تدريجيا وحاسماً عن قيم الحزب الليبرالية وحماية العمال والأقليات.طبقت بنود الخطة بمجرد نجاح الرئيس الأسبق بيل كلينتون، تجلت أبرز ملامحها في “.. قصم ظهر النقابات العمالية،” عبر اتفاقية “نافتا” للتجارة الحرة في أميركا الشمالية، التي صادقت عليها أميركا وكندا والمكسيك عام 1993، ودخلت حيز التنفيذ عام 1994.
كذلك طبق الحزب الديموقراطي سياسة “السجن الجماعي Mass Incarceration” وضغط باتجاه تشدد القضاء في قرارات الحجز والاعتقال، تيمناً ببرنامج الخصم الجمهوري تحت عنوان مخادع لمكافحة تصاعد موجات العنف في المدن الأميركية الكبرى. كما صادق الكونغرس عام 1994 على” قانون الإجرام،” أتبعه الرئيس كلينتون بالموافقة على تأسيس شركة عامة إعلامية ضخمة، كلير تشانيل، عبر قانون الاتصالات اللاسلكية لعام 1996، أولى نتائجها ترجيح كفة الخصخصة وخسارة عمال وموظفين لمصادر رزقهم.
يشار إلى أن الشركة المذكورة، ومقرها في سان أنطونيو بولاية تكساس، قدمت طلباً للحماية من الإفلاس وفق المادة 11 من قانون التصفية، في آذار 2018، بعد مراكمتها لجبل من الديون فاق 20 مليار دولار.
لعل الأبرز في خطة الحزب الديموقراطي الجديدة مصادقة البيت الأبيض في عهد الرئيس كلينتون على تعديل قانون إصلاح الرعاية الاجتماعية لعام 1996، عام انتخابات رئاسية أيضاً؛ مما قوّض شبكة الحماية والرعاية لذوي الدخل المحدود – وهو مطلب ثابت لدى الخصم الجمهوري.
استكمل الرئيس باراك أوباما هجوم حزبه على القيم الليبرالية للحزب الديموقراطي بانتشاله كبريات الشركات المصرفية والمضاربات المالية في وول ستريت من الإفلاس، 2008، تحت شعار مخادع “أنها شركات ضخمة لن يسمح بإفلاسها.”
جدير بالتذكير أن ولايتي الرئيسان الديموقراطيان، بيل كلينتون وباراك أوباما، شهدتا تصعيداً لعدوان وغزو عسكري أميركي متعدد الأوجه والساحات: العراق وحصاره الشهير ومن ثم تدميره، السودان، الصومال، ليبيا، سوريا واليمن؛ والانقلابات في تونس ومصر.
كما تميزت ولايتيهما بتعزيز “دولة الأمن القومي،” بزيادة الاستثمار في قوات الشرطة الداخلية وتسليحها تسليحاً حربيا، وإطلاق الرئيس أوباما العنان للتجسس الداخلي على الأميركيين، ضمن سياق محاباة الأجهزة الأمنية وتحكمها في مفاصل الحياة اليومية. وعلى الرغم من ذلك، لم يتوانى الرئيس أوباما ووزيرة خارجيته هيلاري كلينتون عن التشدق بالديموقراطية الأميركية، وتغيير الأنظمة غير الموالية لسياسات واشنطن.
ماذا بعد أيوا
نصت اللوائح الداخلية للحزب الديموقراطي على اعتماد 3،979 مندوباً كمجموع عام موزعون على كافة الولايات وفق حسابات الكثافة السكانية والتمثيل؛ ويحتاج المرشح لتأييد 1،991 مندوباً، على أقل تعديل، للفوز بترشيح الحزب له.
يتضمن المجموع العام عدداً محدداً من المندوبين غير المنتخبين، وهم عبارة عن شخصيات نافذة ومسؤولين حاليين وسابقين، يجري التعامل معهم وفق توجهات الحزب المركزية لدعم مرشح بعينه.
تعتبر ولاية كاليفورنيا الجائزة الأكبر في عدد المندوبين، 494، بضمنهم 416 مندوباً منتخباً، والباقي تحدده لجنة الحزب المركزية في الولاية. وعليه، تتجه أنظار كافة المرشحين للتركيز عليها لأهميتها المحورية في رسم مسار النتائج المقبلة.وتشيرالبيانات الأولية في كاليفورنيا تشير إلى تربع المرشح بيرني ساندرز في المرتبة الأولى، بتأييد نحو 29% من المجموع العام.
في سياق الانتخابات التمهيدية للحزب الديموقراطي دخل مصطلح الانتخاب الجماعي في يوم واحد، الثلاثاء سوبر، تم تحديده يوم 3 آذار المقبل، تعقد فيه 14 ولاية انتخاباتها لاختيار مندوبيها للمؤتمر العام، 1344 مندوب، بما يشكل نحو ثلث المجموع العام.
سردية الحزب الديموقراطي الراهنة صنفت المرشحين بين تيار “يسار متطرف أو اشتراكي” والتيار الوسطي العام. الأول يمثله بيرني ساندرز واليزابيث ووران، والثاني ممثل بالمرشحين بيت بوتيجيج، جو بايدن وآيمي كلوبوشار. يراهن الحزب على بيت بوتيجيج، كمرشح أول، والملياردير مايك بلومبيرغ، كمرشح احتياط.
ما يعزز تلك الفرضية تعديل اللجنة المركزية للحزب لوائحها الداخلية الصارمة حول استيفاء المرشح لشروط المشاركة في دورات النقاش العام بين المرشحين، وصياغتها الجديدة لتفتح مجال المشاركة أمام بلومبيرغ الذي باستطاعته إنفاق “4 – 5 مليار دولار” من ماله الخاص؛ وأنفق ما ينوف عن 300 مليون دولار للحظة على إعلانات متلفزة.
يشير التاريخ السياسي لانتخابات الحزب الديموقراطي إلى إمكانية عدم حصول مرشح معين على الحد الأدنى من مجموع المندوبين خلال انعقاد المؤتمر العام، مما يبرز تحدياً للمضي بجولات انتخابية متتالية لحين استيفاء شروط اللائحة الداخلية.
سبق للحزب أن خبر تجربة الجولات الانتخابية عام 1952، التي اسفرت عن فوز المرشح أدلاي ستيفنسن بعد ثلاث جولات.
يرجح المراقبون أن تتكرر تجربة عام 1952 في الجولة المقبلة، خاصة عقب بلبلة الجولة في ولاية أيوا؛ ولا يزال 11 مرشحاً للمنصب أحدثهم الملياردير مايك بلومبيرغ.
رئيس لجنة الحزب الديموقراطي السابق في ولاية نيو هامبشير، كريس سبيرو، أعرب عن خشيته من “اضطرابات” جديدة في المؤتمر العام “لا سيما وإن دخول (مايكل) بلومبيرغ الحلبة يعزز فرصة مؤتمر عام منقسم،” مما يضطره لعقد دورة انتخابية إضافية، وربما أكثر.
حينئذ، حسبما أوضح سبيرو، قد يتدخل الرئيس السابق أوباما، بصفته مندوباً فوق العادة، بالسعي للتوصل إلى إجماع مركزي حول مرشح بعينه.
مركز الدراسات الأميركية العربية – واشنطن