بقلم ناصر قنديل

منعاً للالتباس… اقرأوا السيد جيّداً: ناصر قنديل

يحاول الكثيرون وضع كلمة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله في سياق استنسابي وانتقائي بعيد عن الموقع الذي يفترض فيه قراءة المواقف التي تصدر عن قائد بحجم ومكانة وتأثير السيد نصرالله. وتعدد الجبهات التي يقرأ منها ما يصدر عنه، والذين يقعون في الاستنسابية والانتقائية يقارنون كلمة السيد نصرالله بكلمته الأخيرة لجهة نبرة التخاطب مع الحراك الشعبي، ويستنتجون أن السيد نصرالله استبدل التحذير من الذين يملكون مشروعاً وأدوات لإدارة الحراك وتوجيهه إلى الدعوة لأخذ مطالبه، متجاهلين بهذا الاجتزاء أن هذه هي الكلمة الثالثة للسيد منذ بدء الحراك، حيث الكلمة الأولى كانت أشدّ حرارة في مدّ الجسور مع الحراك، والدعوة لأخذ مطالبه، وقد جاءت في ذروة التظاهرات، والقراءة الصحيحة هي التي تأخذ الكلمات الثلاث وترسم خطاً بيانياً للموقف على إيقاع المسار الذي يسلكه الحراك ومعه، وربما أحياناً خلفه وأحياناً أمامه، تسلكه التطورات السياسية في لبنان، وتحديد مركز الثقل المطلوب مخاطبته، والوظيفة التي يؤديها كل مكوّن من عناصر المشهد السياسي، والحراك أحد هذه المكوّنات وليس كلها، ومرة يكون أبرزها ومرة يتراجع إلى الخلف، وبالتالي فهم المهمة الوظيفية للمواقف التي تضمنتها كلمة السيد في كل مرة.

 

الكلمة الأولى للسيد نصرالله كانت في 19-10 بعد يومين على اندلاع الحراك الشعبي. وقد كان الحراك في ذروة الحضور، وكان في قمّة طابعه الشعبي النقي والعفوي، وكانت مهمة الكلمة مخاطبة الحكومة عبر تبنّي مطالب الحراك وتفسيره لمكوّنات الحكم، ودعوة الحراك للتنظيم والعقلانية والتحسّب للمخاطر، والسعي لجمع عقلنة الحراك من جهة مع الضغط من داخل الحكومة من جهة موازية، لمنع وقوع محظور يدرك السيد نصرالله أنه مكمن الخطر وهو الفوضى، وبوابته الفراغ، مدخلها استقالة الحكومة. أما الكلمة الثانية فكانت في 25- 10 بعد أسبوع تقريباً على الكلمة الأولى، وكانت جهود السيد نصرالله قد انصبّت على إقرار سياسة حكومية تلاقي الحراك في منتصف الطريق منعاً لجعل استقالة الحكومة مطلباً مشروعاً، وكانت الجهود قد أفلحت مع الحلفاء ومكوّنات الحكومة وخصوصاً رئيسها صاحب مشروع الضرائب والرسوم ورئيس فريق ضريبة الواتساب، والرافض لفرض مساهمات وازنة على المصارف لمواجهة عجز الخزينة، والممتنع عن إقرار حزمة إجراءات تيسّر الدورة الاقتصادية، وصدرت الورقة الإصلاحية للحكومة، التي رفضت من الحراك وبُنيت عليها الدعوة للتصعيد حتى استقالة الحكومة وإسقاط العهد وإسقاط المجلس النيابي. فاستدار السيّد نحو الحراك يحذّر من خطورة الاتجاه الانتحاري القائم على فتح الطريق إلى الفراغ والفوضى من بوابة الدعوة لإسقاط المؤسسات في ظلّ استعصاء استيلاد البدائل، وفتح العين على الهوية الحقيقية لصاحب مشروع الفوضى والفراغ، والتحذير من تمكينه من السيطرة على الحراك وتوجيهه. أما الكلمة الثالثة، فجاءت في 1-12 أي بعد أسبوع على الكلمة الثانية تقريباً، وكان رئيس الحكومة قد استقال، فوقع المحظور، وصار خطر الفراغ والفوضى حاضراً، ولم يعُد ينفع التحذير. فلا الحراك تحمّل المسؤولية وقام بما يجب لمنع وقوع الخطر، ولا رئيس الحكومة فعل.

مهمة الكلمة الثالثة لم تعُد تعبوية ولا توضيحية، ولا تحذيرية. فالحراك كصانع للسياسة تنازل عن مكانه ودوره وصار في خلفية الأحداث بعدما استقال رئيس الحكومة، وبدأت تعلو اصوات استثنائه من شعار كلن يعني كلن تطغى على بعض ساحات الحراك والمؤسسات الإعلامية ذات الدور القيادي فيه. ومعها بدأ الصراخ المذهبي يتقدم على الخطاب الوطني الذي عبر عن الأمل بسياق سياسي عابر للطوائف مع بداية الحراك، ولم تعد ثمة قيمة لمناقشة من يولومون حزب الله على موقفه ورفضه دعوتهم ليقود الحراك نحو إسقاط الحكومة، لأنه بالأصل يرى المشكلة في الدعوة وليس في آلية تحقيقها وهو قادر على إسقاطها من دون الاستناد للحراك، وقد سبق وهدد السيد نصرالله باللجوء إلى الشارع ما لم تستجب الحكومة لنداء الامتناع عن فرض ضرائب ورسوم جديدة، لكن القضية صارت في مكان آخر الآن، حيث تلاقى الذين نجحوا بأخذ الحراك نحو الدعوة لاستقالة الحكومة، مع الذين أخذوا رئيس الحكومة نحو الاستقالة، وبات على حزب الله أن يضع بعض النقاط على الحروف بحدود الممكن، مع انتقال السياسة من العلنية إلى الكواليس بتنازل الحراك عن موقعه القيادي منتشياً بلحس مبرد الاستقالة والقراغ.

حدّد السيد أن الكلام عن الخطر لا يعني الخطر على المقاومة، وجاءت الإشارة المختصرة مع الابتسامة الكبيرة لذكره السلاح النوعيّ الجديد الذي استخدمه المقاومون في التعامل مع طائرة الاستطلاع الإسرائيلية، تعبيراً عملياً عن أن المقاومة لا تستشعر خطراً عليها وليست قلقة على إمساكها بالمعادلات الاستراتيجية، وهي قوية وقوية جداً جداً ولم تستعمل أي ورقة من أوراق قوتها بعد، كما قال السيد. والرسائل كلها هنا للخارج الأميركي والخليجي والإسرائيلي، والتتمة هي أن المقاومة قلقة على لبنان وترى الخطر على لبنان، وهنا مصدر القلق والخطر هو، بعدما تشارك الذين دفعوا الحراك نحو مطلب استقالة الحكومة والذين دفعوا برئيس الحكومة للاستقالة، وتمت الاستقالة ووقع المحظور، التحسب لمنع الفراغ والفوضى من التسلل من بوابة الاستقالة. وهذا يلقي على الحراك مسؤولية نبذ لغة السباب والشتائم، والتخلّي عن لعبة قطع الطرقات، وكلاهما يؤديان للفوضى، لكن المسؤولية الأهم، والجبهة الأساس لم تعُد عند الحراك بإرادته التي تنازل عن حضورها المطلبي، لصالح دعوة الاستقالة وصار عليه الانتظار. وقد صارت المعادلة بيد السياسيين. وهنا تتمة اهتمام السيد دون كشف الأوراق، ولا إعلان الخيارات، لمنع التلاعب والابتزاز، بقوة الحاجة لحكومة جديدة لفرض معادلات تهزّ الاستقرار السياسي، وتخالف القواعد الدستورية والميثاقية، وتحقق مشاريع الخارج بإعادة فك وتركيب المشهد السياسي بإلغاء نتائج الانتخابات النيابية. وهذه عناوين لا حاجة لطرحها في التداول لأن مكانها المشاورات التي تجري حول مَن سيشكل الحكومة الجديدة، ودفتر شروط تشكيلها.

– ضاع البعض في التحليلات، وبعض آخر في التخيّلات، والأصل في القراءة هو وجهة التحدي والمسؤولية، فهذا دأب المقاومة، ولسان حال السيد نصرالله كقائد لهذه المقاومة، ورب سطر واحد في خطاب يختصر ما أراده صاحب الخطاب، والاكتشاف مسؤولية المتلقي بحثاً عن هذا السطر المبين في النص المتين. فلا تضيعوا والخطاب متشعّب وطويل، وربما هذا من ضرورات لغة الرسائل المشفرة.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى