إيران في المرمى الأميركي : إخضاع الصين بحرمانها من مصادر الطاقة د.منذر سليمان
شهدت واشنطن في الأيام القليلة الماضية سلسلة اجراءات وتدابير متزامنة أولويتها قرع طبول الحرب ضد إيران، بدءاً بإعلان حالة الاستنفار القصوى في الاسطول الخامس المرابط في البحرين، مقروناً بإعلان مستشار الأمن القومي جون بولتون عن توجه حاملة الطائرات، آبراهام لينكولن، وأربع قاذفات استراتيجية من طراز ب-52 إلى الخليج العربي؛ وإلغاء وزير الخارجية مايك بومبيو لاجتماع مقرر مع المستشارة الألمانية انغيلا ميركل متوجاً للعراق على عجل.
وما لبثت القيادة العسكرية الأميركية أن أعلنت تصريحات مغايرة لفريق الحرب في واشنطن (بولتون، وبومبيو، نائب الرئيس مايك بينس) يلمس منها تراجع عن خطابات التهديد والوعيد لإيران.
قائد القوات البحرية الأميركية في الشرق الأوسط، جيم مالوي، والذي يتبع تراتبياً للقيادة الوسطى، صرح لوكالة “رويترز” للأنباء أنه سيعطي الأمر لحاملة الطائرات، “آبراهام لينكولن” والمجموعة الهجومية المرافقة لها، بعبور مضيق هرمز إذا احتاج الأمر؛ قاطعاً الجدل بسردية إغلاق المضيق التي تتبناها واشنطن الرسمية.
كما صرّح المبعوث الأميركي الخاص لإيران، برايان هوك، موضحاً بأن “ارسال حاملة الطائرات لمياه الخليج ليس رسالة سياسية، بل دفاعاً عن النفس” في ضوء ورود أنباء عن تهديدات للقوات الأميركية.
المفتش الدولي الأسبق لدى العراق، سكوت ريتر، أكد بأن ارسال حاملة الطائرات المذكورة للخليج “كان إجراءً روتينياً،” وهو ضابط الاستخبارات السابق في سلاح مشاة البحرية، المارينز، الأميركي. الثابت أن الحاملة والقطع المرافقة لها تحركت الشهر الماضي للمشاركة في مناورات بحرية في مياه البحر المتوسط، انطلاقاً من قاعدتها في نورفولك بولاية فرجينيا.
القيادة المركزية للقوات الأميركية أدرجت حاملة الطائرات المذكورة على رأس مهامها القتالية لتتبع ومراقبة “تزايد الوجود البحري الروسي” في مياه المتوسط؛ وطائرات التجسس الالكتروني المرافقة لها كلفت بمراقبة “حجم الغارات الجوية لروسيا في مناطق إدلب وحلب وحماه .. والإبقاء على الجهوزية العسكرية أن تطلبت الظروف تعزيز التواجد العسكري الأميركي شرقي البحر المتوسط؛” من ضمنها شن غارات بصواريخ كروز على سوريا في حال صدور قرار رئاسي بذلك.
تحريك الحاملة والقطع المرافقة لها بالقرب من مياه الخليج اسفر عن إلغاء البنتاغون جملة مناورات مشتركة لحلف الناتو في البحر المتوسط، بل تغيير المهمة من مراقبة العمليات الروسية في سوريا إلى منطقة الخليج ينم عن أمر بالغ الخطورة في مجمل الاستراتيجية الأميركية اقتضى تلك التغييرات الجوهرية، لا سيما وأن القرار بذلك صدر عن مصدر غير عسكري، جون بولتون، ولم يؤكده البنتاغون إلا بعد مضي 24 ساعة.
ريتر وفي مقال له نشرته أسبوعية ذي أميركان كونسيرفاتيف، 10 أيار الجاري، فنّد ادعاءات كل من بولتون ووزير الخارجية مايك بومبيو، لا سيما وأن الأخير استدعي على عجل لاجتماع رفيع المستوى لمجلس الأمن القومي بطلب من قيادة الأركان المشتركة.
أثارت تصريحات بولتون النارية، لا سيما إعلانه عن حاملة الطائرات بدلاً من البنتاغون، ردود فعل قاسية بين السياسيين والمراقبين على السواء عبرت عن قلقها من قيادته الولايات المتحدة نحو حرب (مع إيران) هي غير مستعدة لها “استناداً إلى معلومات استخباراتية مصطنعة،” قيل لاحقاً أن مصدرها “إسرائيل.”
ريتر، من جانبه وما يمثله من امتداد ونفوذ داخل المؤسسة الاستخباراتية، أوضح أن الثنائي بولتون – بومبيو “ينفذان سياسة أملتها الاستخبارات الإسرائيلية ومررتها لبولتون في اجتماع بالبيت الأبيض يوم 16 نيسان/ابريل 2019.” أما طبيعة المعلومات، بحسب ريتر، فكانت عبارة عن “تحليل أجرته الموساد يتضمن جملة من السيناريوهات (الافتراضية) التي قد تخطط لها إيران.”
وبحكم موقعه وخبرته الاستخباراتية، انتقد ريتر بشدة شبكة (سي أن أن) الإخبارية لترويجها نبأً عسكرياً لم تتثبت من صحته حول “تحريك إيران بطاريات صواريخ باليستية قصيرة المدى على متن زوارق لمياه الخليج.” وقال أن الخبر الذي انتشر كالنار في هشيم واشنطن “سخيف ومنافي للمنطق .. لسنا على يقين بأن لدى إيران القدرة على إطلاق صواريخ (باليستية) من على متن زوارق حربية؛ كما أن ترسانتها الصاروخية هي متحركة على الأغلب؛ واعتراضها عبر غارات جوية شبه مستحيل” في العلم العسكري.
بعض الخبراء العسكريين استهزؤا بتعليل بولتون لإرسال حاملة الطائرات، آبراهام لينكولن، لمياه الخليج بقوله انها رسالة سياسية لإيران بأن “.. أي هجوم على مصالح الولايات المتحدة أو تلك العائدة لحلفائنا سيواجه بقوة لا تلين.”
مضى الخبراء بالقول أن مياه الخليج العربي ضيقة وتحد من مدى مناورة التحرك التي تحتاجه الحاملة، مما يجعلها هدفاً سهلاً للهجمات نظراً لحجمها الهائل. ويعتقد اولئك أن تحويل مهمة الحاملة والقطع المرافقة من مياه المتوسط لمياه الخليج، وفق تصريحات بولتون، يعزز فرضية عكس ما يهدد به فريق الحرب؛ أي أن الولايات المتحدة لا تنوي مهاجمة إيران.
إذن، الهدف الأقرب للتصديق من تلك التحركات والمناورات وتصعيد الخطاب السياسي، وفق منطق الخبراء، يكمن في استفزاز ايران واستدراجها لاشتباك ولو محدود، إما ضد القوات الأميركية أو أهداف أخرى في السعودية، وتحقيق جاذبية الإغراء الذي أعده الثلاثي: بولتون وبومبيو وبينس بضرورة الرد على الهجوم الافتراضي. بل، “من المرجح افتعال التقاط إشارة خاطئة بهجوم على الحاملة” لينتشي فريق الحرب المذكور “.. كما جرى في حادثة الهجوم على السفينة ليبرتي” في حرب حزيران 1967.
توقيت التهديدات الأميركية لم يكن صدفة أو عفوياً، خاصة بعد هزيمة مشروعها لإخضاع فنزويلا والسيطرة على ثرواتها النفطية والمعدنية، وعودة كوريا الشمالية لتجاربها الصاروخية متحدية المؤسسة الحاكمة في واشنطن.
فإيران وفنزويلا لديهما مخزوناً هائلاً من النفط ولا تزالان خارج النفوذ الأميركي. كما أن ايران وقطر تتشاطآن في ثروة ضخمة من الغاز الطبيعي، مما يسيل لعاب صناع القرار الأميركي ومصالح شركاته المعولمة.
في هذا السياق، تعثرت مساعي واشنطن لفرض رؤيتها الاقتصادية على الصين ملوحة بفرض عقوبات عليها عبر رفع التعرفة الجمركية على منتجاتها.
عند الأخذ بعين الاعتبار الدور المركزي للصين في الاقتصاد العالمي، لا سيما عدم امتثالها للعقوبات الأميركية المفروضة على كل من إيران وفنزويلا، وتصميم واشنطن على محاصرتها في قطاع الطاقة تحديداً تتبلور صورة مختلفة عن السرديات الرسمية الساعية لاسترضاء عطف الدول التي تتحكم واشنطن باقتصادياتها، اوروبا الغربية واليابان بشل خاص.
إن لم تستطع واشنطن تحقيق هدفها بالسيطرة على الثروة النفطية في إيران، وهو المرجح، فإنها ستفقد أحد أهم ركائز استراتيجيتها لتطويع الصين عبر التحكم بمصادر الطاقة المختلفة؛ وستدفعها لتكرار المحاولة ربما باستحداث اساليب مختلفة استناداً إلى رفض صناع القرار السياسي القبول بالتغيرات الدولية التي أفرزت منافسين اقوياء للولايات المتحدة، بل هم يتحدونها بسياسات ومواجهات أشد من مناخ الحرب الباردة بين القطبين العظميين؛ وهي منشغلة في الإعداد لانسحابها من أفغانستان بشكل منفرد وعبر ترتيبات وتفاهمات مع روسيا للانسحاب من سوريا.
أما “المعلومات الاستخباراتية” التي تتلطى وراءها واشنطن الرسمية لتبرير تصعيدها حدة التوتر في المنطقة ثبت أنها مفتعلة ولا تستند إلى حقائق ملموسة. سكوت ريتر كان أكثر الخبراء وضوحاً بقوله إن “.. اسرائيل ومن خلف الستار تزود المعلومات الاستخباراتية والتحريض مما يحيل تصرفات بولتون إلى قدر أعلى من المساءلة. وتدل على أن جون بولتون وليس إيران هو ما يمثل الخطر الأكبر على الأمن القومي الأميركي اليوم.”