مستقبل العلاقة الأميركية الروسية انفراج ام تنافس لمزيد من التوتر؟ د.منذر سليمان
رؤية الرئيس ترامب للعلاقات الاستراتيجية مع موسكو تعارضت مع توجهات المؤسسات الحاكمة منذ صعوده “السياسي،” وهو الآتي من قطاع العقارات والصفقات التجارية وتكديس الارباح، ولم يشاطر المؤسسة نظرتها “العدائية لروسيا والمكلفة مادياً” دون مردود ربحي، حسب أولوياته.
باستطاعة ترامب، بعد صدور تقرير المحقق الخاص موللر وعدم إدانته بتهمة التواطؤ مع روسيا، الاستمرار في شن هجومه على خصومه الداخليين ولبس رداء العداء لروسيا دون القلق من اتهامه “بالنفاق أو صرف الأنظار،” اللهم باستثناء ما يضمره رؤساء لجان الحزب الديموقراطي في مجلس النواب لمواصلة محاصرته قانونياً علّها تسعف الحزب في ترجيح كفة الانتخابات نحو مرشحيه وطموحه في الإطاحة وهزيمة الرئيس ترامب.
العلاقات الأميركية الروسية من العناوين الثابتة والبارزة في الجدل الداخلي الأميركي، لكنها “مستعصية على الحل،” وفق توصيف معهد هدسون اليميني، في معظم الحقبات الزمنية، وتحتل مرتبة الأولوية في جدول أعمال الطرفين.
هاجس روسيا في أميركا مستمر منذ قرن ونيف من الزمن “لكن دون تحقيق نجاحات كبيرة،” كما يمضي المعهد، باستثناء سقوط الاتحاد السوفياتي ونهوض روسيا القومية مجدداً في مواجهة الولايات المتحدة؛ بينما “لا تشبه اوروبا الغربية اليوم سابقتها الواثقة من مستقبلها بعد انهيار جدار برلين.”.
المشهد الداخلي الأميركي، فيما يخص روسيا تحديداً، وامتداداّ للقوى الدولية الصاعدة الأخرى كالصين، يتسم بفرضية ثابتة بأن مستقبل المؤسسة الحاكمة رهن استمرار عدائها لتلك القوى وتحديث مناخات الحرب الباردة؛ ويرجّح استحداث عقوبات اقتصادية ومالية ضد روسيا في المديين الراهن والمتوسط، لا سيما عند الأخذ بعين الاعتبار “سلاح النفط،” من انتاج وتسعير وتسويق، الحاضر دوما في جعبة السياسة الأميركية، أقلها لمحاصرة المنتجات النفطية والغازية الروسية على المستوى العالمي؛ وكذلك الأمر مع ايران وفنزويلا.
استناداً إلى التصريحات والمواقف الأخيرة لإدارة ترامب، فيما يخص تدفق النفط على السوق العالمية، واتكاله على كل من “السعودية والإمارات .. لتعويض حصتي إيران وفنزويلا،” يمكننا القول أن أحد الأهداف المرئية في هذا الشأن هو تذليل ما استطاع من عقبات لاستبدال منظمة “الاوبك” العالمية بأخرى أميركية للتحكم المباشر بتلك السلعة الحيوية؛ ومحاصرة روسيا من خلال تلك الوسيلة.
ما يعزز ذاك التوجه لدى الإدارة هو تصدر الولايات المتحدة المرتبة الأولى عالميا في انتاج النفط، وتسخير تلك الميزة لبسط سيطرتها الكاملة على الدول الأخرى، منتجين ومستهلكين؛ وترجمة حقيقية للشعور القومي الشوفيني الذي يمثله ترامب “لنعيد عظمة أميركا.”
علاوة على ذلك، يمكننا القول استناداً إلى رصد ردود الأفعال داخل أوساط اليمين الأميركي المتطرف، ووسيلته الإعلامية الأبرز، فوكس نيوز، أن موجة العداء لروسيا اتشحت برداءة إضافية بعد صدور تقرير المحقق الخاص موللر، قائلة أن “الصراع السياسي الداخلي” حول العداء لروسيا سيستمر في المدى المنظور، مؤكدة أن وسائل الإعلام الرئيسية الأخرى “تغذي مشاعر الهلع والقلق لدى الرأي العام بغية تعزيز العداء لروسيا لديه” (25 آذار/مارس الماضي).
من بين السيناريورهات “الايجابية” المتاحة لدى المؤسسة الأميركية الحاكمة، فيما يخص مستقبل العلاقات الروسية الأميركية، نرصد التالي، دون ترتيب معين:
أولا إعادة الدفء لعقد قمة روسية أميركية قريباً، كما درجت العادة بين الدولتين العظميين منذ وبعد نهاية الحرب الباردة، على ضوء تقرير موللر، ربما العام المقبل قبل موسم اشتداد التنافس الانتخابي؛ وإعادة الأولوية لمناقشة لأسلحة النووية عند الطرفين ورغبتهما معاً في ضم الصين لاتفاقية شبيهة بالسابقة للحد من انتشار الأسلحة النووية عالمياً.
بيد أن الرغبة الأميركية قد لا تقابلها حماسة روسية نظراً لطبيعة العلاقة المتينة التي تربط روسيا بالصين وعزمهما على مواجهة النفوذ الأميركي. أما الصين، في هذا الشأن، فهي ليست على عجلة من أمرها وتمضي باستغلال موقعها المتحلل من القيود النووية الدولية في تطوير ترسانتها.
ثانياً، مستقبل العلاقة يعتمد أيضاً على المكتسبات والانجازات الصينية، كما أسلفنا، خاصة بعد فشل مراهنة واشنطن على لعب ورقة “الصراع الصيني الروسي” مرة أخرى، بل استمرار تقاربهما اقتصادياً وعسكرياً، والفرص الهائلة أمام الدولتين التي ستنجم عن استكمال الصين بناء “طريق الحرير” الجديد، الذي سيشكل ما لا يقل عن 30% من الانتاج السنوي العالمي يستفيد منه مباشرة نحو 40% من سكان العالم قاطبة؛ والأهم أنه يضم اوروبا ويستثني الولايات المتحدة.
ثالثاً، ليس مستبعدا بنظر بعض المراقبين أن يفاجئ الرئيس ترامب الجميع بترجمة بعض تصريحاته السابقة حول علاقة مستقبلية مع سوريا والرئيس الأسد في المدى المنظور، وفق معطيات فرضها الميدان بانتصار سوريا على المؤامرة متعددة الجنسيات، مما يعتبر نصراً صافياً في خانة روسيا التي حافظت على سرديتها “بدعم حكومة علمانية مستقرة، والحفاظ على وحدة وسيادة الدولة على أراضيها.”
يعتقد بعض خبراء مراكز الدراسات في واشنطن أن الطرفان في هذه الجزئية يتشاطران الرغبة في “تحجيم” النفوذ الإيراني في سوريا، وإن بدرجات متفاوتة. بيد أن سيل العقوبات الأميركية على كل من روسيا وايران حفز موسكو وطهران على التقارب أكثر من ذي قبل في مواجهة العنجهية الأميركية.
رابعاً، توثيق العلاقة بين كوريا الشمالية وروسيا، عبر القمة الرئاسية الأخيرة، ضاعف المأزق الأميركي دون المساس بالصين الحليف الطبيعي لكوريا الشمالية؛ وقد يشكل حافزاً للرئيس ترامب توسيط الرئيس بوتين في الشأن الكوري الشمالي مقابل تنازلات معينة.
ما تقدم لا يشكل ارضية كافية لعودة دفء العلاقات بين القطبين العظميين، لاسيما في عصر تصدر اليمين الأميركي المتطرف للمشهد والقرار السياسي. بل ستمر العلاقات في ثنائية المد والجزر بينهما الاصطدام المباشر في أي من الساحات الدولية.
السياسة “الواقعية الأميركية محاصرة وتعاني من شح فرصها،” وفق توصيف معهد هدسون ، وتجمع النخب السياسية والفكرية الأميركية على استمرارية الوضع الراهن بكل ما يتضمنه من معاني وفرص وأزمات. فعلاقة العظميين “لم ولن تكون على ما يرام، لكنها ليست بمقدار السوء المتخيل، وشائكة دوماً.”