سباق الانتخابات الرئاسية في استراتيجية الحزب الديموقراطي د.منذر سليمان
إلهان عمر وظاهرة التحدي
من ابرز التطورات السياسية الراهنة في الساحة الأميركية كانت الحملة المنظمة الرامية لإقصاء النائبة إلهان عمر على خلفية تصريحات لها مسلطة الضوء على نفوذ “اللوبي الإسرائيلي – إيباك،” في رسم السياسات الأميركية اعتبرتها المؤسسة الحاكمة بأنها “انتهاك للممنوع” وتستوجب اجراءات عقابية.
مسيرة إلهان عمر إلى الكونغرس شابها إلصاق تصنيفات جاهزة رغماً عنها، أبرزها تحديد هويتها طائفياً وهي التي لم تعرف نفسها بها بل شددت على أنها “مواطنة أميركية مهاجرة من الصومال،” تتميز بتوجهات شعبية (ليبرالية) للدفاع عن الحقوق المدنية والاجتماعية للمواطنين.
اسباغ الهوية الدينية عليها لم يكن صدفة من قوى متنفذة بالقرار السياسي الأميركي، في الحزبين، كمؤشر خادع “لتسامح” النظام السياسي، من ناحية، وعدم المساس بالمسلمات وموازين القوى التقليدية، لا سيما المحافظين بكافة تلاوينهم، من ناحية أخرى.
من الضروري ايضاً الإشارة إلى تضافر مصالح اولئك مع القوى التقليدية من “حلفاء” الولايات المتحدة في “الشرق الأوسط،” في التصدي المبكر لنماذج شابة من المرشحين يمثلون التحولات الاجتماعية والطبقية الجديدة في المجتمع الأميركي.
عقب فرز نتائج الانتخابات “النصفية” الأميركية العام الماضي أفردت اسبوعية فورين بوليسي، 11 كانون الأول/ديسمبر 2018، تحقيقاً مطولاً بعنوان لافت “السعودية تعلن الحرب على نواب أميركيين مسلمين” مؤكدة أن “مشيخات الخليج العربي تسخّر نزعات العنصرية والتزمت والانباء الكاذبة لإدانة أحدث حالة تصنع التاريخ السياسي في واشنطن .. والمحافظين الجدد ليسوا هم من تمادوا في شن حرب واستهداف الشخصيات السياسية البارزة والصاعدة من (خلفيات) عربية أو إسلامية في الحزب الديموقراطي (بل) السعودية والإمارات.”
ما نرمي إليه في هذه العجالة هو سبر أغوار الحملة السياسية الأخيرة التي تتخذ أبعاداً بلبوس طائفية تحاكي الغرائز الطبيعية للبشر والأقليات تحديداً لصرف الأنظار عن حقيقة القوى والتوجهات السياسية في المجتمع الأميركي، الذي يمر كما غيره من المجتمعات البشرية بسلسلة تحولات تعيد إلى الأذهان الجذور الحقيقية لمسؤولية القوى النافذة عن تردي التماسك الاجتماعي وتدهور الأحوال القتصادية والاستغلال المستمر لإدماء شرائح الأغلبية في المجتمع.
التحقيق المشار إليه أعلاه أورد فقرة لها دلالاتها العميقة بنص اقتبسته النشرة عن “المستشار الثقافي في السفارة السعودية بواشنطن” يهاجم فوز إلهان عمر بمنصب في مجلس النواب الأميركي جازماً بأنها “ستكون معادية لدول الخليج وداعمة للإسلام السياسي ..”
في المقابل، حافظت القوى السياسية الأميركية التقليدية، بمن فيهم المحافظون الجدد، على إلصاق تهمة “العداء للسامية” بالنائبة عمر على خلفية انتقاداتها لمراكز الضغط “.. اللوبيات، لا سيما ايباك” في انحياز الكونغرس “لإسرائيل” نتيجة الدعم المالي لأعضائه؛ أتبعته بتوضيح أشد صراحة بالإشارة إلى أن “أنصار اسرائيل في الكونغرس يدينون بالولاء لبلد أجنبي.”
بين دعوات لإقصاء النائبة عمر ومطالبة الرئيس ترامب لقادة الحزب الديموقراطي بإقالتها نتيجة انتقاداتها “للممنوعات” في السياسة الأميركية، انبرى عدد من زملائها في مجلس النواب للدفاع عنها، وتشكل فريق مشترك من النواب السود ومن ذوي اصول لاتينية، ممن اطلق عليهم النواب التقدميون، للدفاع عن حقها في ممارسة ابداء الرأي ومعارضة إدانتها رسمياً، مما أرسل رسالة قوية لرئاسة وقادة المجلس عن تشكل حالة تنذر بانقسام في صفوف الحزب، استوجب تدخلاً لطرح صيغة توفيقية لقرار صودق عليه “يدين اللاسامية والانحياز ضد الاسلام والمسلمين.”
تلك المقدمة كانت ضرورية للنفاذ إلى صلب التحولات السياسية الرامية لتسليط الضوء على سلسلة تحقيقات تهدف لإحراج الرئيس ترامب وتمهد الأرضية لمناقشة أجراءات عزله دون المضي قدماً بذلك، نظراً لضيق المساحة الزمنية التي تستغرقها، وايذائه بما فيه الكفاية لخسارة الانتخابات الرئاسية المقبلة.
ترامب في مرمى الاستهداف
عوّل الحزب الديموقراطي وأركان المؤسسة الحاكمة على نجاح مساعي الاتهامات الموجهة للرئيس ترامب بتواطئه مع روسيا، لتقييد حركته ومن خلفه الحزب الجمهوري، متسلحاً بالتحقيقات الموكلة “للمحقق الخاص روبرت موللر،” وتقريره المنتظر قريبا.
التسريبات الآتية من داخل فريق “موللر” خيبت تلك الآمال بإشارتها إلى عدم تبلور دلائل حسية تدعم تلك الاتهامات للحظة؛ مما استدعى مراكز قوى الحزب الديموقراطي تشديد الهجوم بأدوات بديلة عمادها تمتعه بأغلبية مقاعد مجلس النواب وما يمثله من حق لجانه المتعددة المضي بإجراء تحقيقات متعددة ترمي شباكها في اتجاهات متعددة علها تصطاد دليلاً يعزز مصداقيتها أمام العموم.
خفضت اسبوعية تايم من سقف التوقعات الشعبية استناداً لفريق موللر بالقول أن مضمون تقريره ونتائجه “.. ستأتي مخيبة للآمال، وهي ليست نتيجة خطأ ارتكبه. بل خطأ كل من انجَرّ وراء التهم الباطلة ضد ترامب المتمحورة حول سردية إثبات موللر (تهمة) التواطؤ .. وهي توقعات يستحيل تحقيقها،”( 1 آذار الجاري ).
بعض المتنفذين في القرار السياسي يعتقدون أن أحد أهداف لجان التحقيق هو “محاولة” لبلورة تقرير موازٍ لتقرير المحقق الخاص موللر، يذهب بعيداً في استنتاجاته بتسليط الضوء على شخص الرئيس والمخالفات المالية خصوصاً.
في الوعي الجمعي، تهمة التواطؤ مع دولة أجنبية تقود “حتماً” للبدء بإجراءات عزل الرئيس، التي تتطلب موافقة ثلثي اعضاء مجلس الشيوخ لإقراره، وهو أمر غير متوفر في ظل التوازنات الراهنة وسيطرة الحزب الجمهوري على أغلبية مقاعده؛ فضلاً عن التعقيدات المتضمنة والقيود الدستورية المفروضة على تلك الإجراءات مما يحيلها إلى حالة غير قابلة للتحقيق في أي وقت منظور.
علاوة على ذلك، فإن مجلس النواب المخول ببدء إجراءات العزل غير مقبلٍ على المضي بذلك، رغم تصريحات عدد من قادة الحزب الديموقراطي الترويج لذلك، أبرزها تصريحات رئيس اللجنة القضائية المعنية للتقيد بإجراءات العزل عن الحزب الديموقراطي، جيري نادلر، مؤكداً قناعته بأن “الرئيس ترامب أعاق سير العدالة بكل وضوح.”
الهدف الحقيقي للحزب يتعدى التصدي لشخص ومكانة الرئيس، وما يمثله من حجر الأساس في النظام السياسي وقيوده بعدم المساس من هيبته، لاستحداث قضايا تحظى بتأييد جماهيري يمكنه من دخول السباق الرئاسي بموقع متميز. بعبارة أخرى، أقصى ما يرمي إليه الحزب هو “التسبب في إدماء الرئيس سياسياً” أمام الجمهور.
الحزب الديموقراطي، ممثلاً بقيادته في مجلس الشيوخ، شاك شومر، يعاني من شح توفر مرشحين “اقوياء” باستطاعتهم منافسة الرئيس ترامب بحزم؛ وما سيل التصريحات للتهديد بإجراءات العزل سوى أسلوب ضغط تكتيكي لإبقاء السيف مسلطاً على ترامب دون تنفيذه حقاً، يعززها اتساع دائرة التحقيقات لدى لجان مجلس النواب التي تعمل في سباق ضد الزمن.
استطلاعات الرأي الأخيرة تدعم الفرضية أعلاه بأن التلويح بالعزل لن يتجسد أبعد من التهديد به، إذ تشير معظمها إلى استمرار تماسك قاعدة دعم الرئيس ترامب بنسب عالية نسبياً، أدناها 37% وأعلاها 44% عقب “نجاحه” في تعيين قاضٍ شديد المحافظة للمحكمة العليا، بريت كافانو. بالمقارنة فإن أقصى نسبة دعم حققها بعد مراسيم تسلمه منصبه الرئاسي كانت 46%.
هدد عدد من مؤيدي ترامب النافذين يجزمون بأنهم “لن يقبلوا خسارته الانتخابات الرئاسية” بسهولة، ملوحين بنزول مؤيديه إلى الشوارع احتجاجاً على ذلك، لا سيما وأن معظمهم مدججين بكافة أنواع السلاح؛ مما استدعى تحذيرا مبكرا من اندلاع حرب أهلية على ضوء تلك التطورات المرتقبة.
مؤيدو الرئيس ترامب، لا سيما في المؤسسة الإعلامية الهائلة، استبقوا تحقيقات لجان مجلس النواب للدفاع عن حق الرئيس الدستوري “بإقالة مسؤولين كباراً في السلطة التنفيذية مثل (رئيس مكتب إف بي آي السابق جيمس) كومي؛” كما أوضحت يومية المال والأعمال وول ستريت جورنال.
ما يستدل من تلك التطورات والمنابر المؤيدة للرئيس ترامب نجاح مساعي تحشيد قواعد مؤيديه وشحنهم إعلامياً ضد خصومه، في الحزبين، وهم الذين يصوتون بحضور قوي شبه منظم، مقابل تراجع تماسك قواعد الحزب الجمهوري وانقسام ما يسمى شرائح “المستقلين،” الذين صوتوا ضد المرشحة عن الحزب الديموقراطي هيلاري كلينتون بنسبة معتبرة أدت لخسارتها أمام مرشح “لم يتوقع هو نفسه الفوز” بالانتخابات الرئاسية.