ترامب يغادر سوريا: الصورة من منظور إسرائيلي مايكل هيرتسوغ
8 كانون الثاني/يناير 2019
حرص المسؤولون الإسرائيليون على عدم انتقاد الإعلان الأخير للرئيس ترامب عن انسحاب جميع القوات العسكرية الأمريكية من سوريا. ومع ذلك، فقد أظهروا، ضمناً، استياءً وقلقاً ورغبة في تحقيق أقصى قدر من الاستفادة من الوضع.
لقد كان الرد العلني الأولي لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو فاتراً، إذ أشار إلى أن إسرائيل ستستمر في رعاية مصالحها الأمنية وأنها “لن تذعن لترسيخ الوجود الإيراني في سوريا”. وقد تابع تلك التصريحات بمناقشات ثنائية محمومة حول هذه المسألة، وأجرى مكالمة هاتفية مع الرئيس ترامب، واجتمع مع وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو على هامش تجمٌّع في البرازيل، واستضاف “مستشار الأمن القومي” الأمريكي جون بولتون في القدس. وأثارت هذه المناقشات تأكيدات أمريكية علنية بشأن أمن إسرائيل، وبالتالي، أتاحت الفرص للتأثير على الطريقة التي يتم بها تنفيذ قرار ترامب.
وقد قلل بعض المسؤولين الإسرائيليين الحاليين والسابقين من شأن إعلان ترامب، مؤكدين أن الوحدة الأمريكية في سوريا صغيرة وغير فعالة في وجه الزخم العسكري الإيراني، وأن إسرائيل وحدها تحملت عبء مقاومة هذا الزخم، وأن واشنطن ستدعم إسرائيل حتى لو تم سحب القوات الأمريكية. وبقدر ما هي صحيحة، لا تروي هذه التصريحات القصة كاملة.
مخاوف إسرائيل تتركز على إيران
تميل أوساط صنع القرار الإسرائيلية إلى وضع قرار ترامب ضمن سياق المسار الأمريكي المتصوَّر للانسحاب من الشرق الأوسط، حيث قررت واشنطن على ما يبدو تقليص وجودها العسكري بسبب عوامل مختلفة وهي: الإرهاق بعد سنوات من الحروب المكلفة في المنطقة، وانخفاض الاعتماد على موارد الطاقة في الشرق الأوسط، والرغبة في العودة إلى الشؤون الداخلية مع تحويل التركيز نحو الشرق الأقصى. وبدا أن الرئيس أوباما قد اعتمد على هذا الشعور العميق أيضاً، وإن كان بطرق مختلفة. وبالتالي، يشعر الإسرائيليون بالقلق من احتمال إضعاف عنصر مكمّل هام لردعهم الاستراتيجي ومرساة الاستقرار الإقليمي.
وفي الغالب، تنظر إسرائيل إلى القرار الأمريكي من خلال منظور التهديدات الأكبر لأمنها القومي – وتحديداً، طموحات إيران النووية والإقليمية، وجيشها المؤلف من الوكلاء الذين يبنون قدراتهم في الجوار المباشر لإسرائيل. فمن خلال هذا المنظور، تكون النتيجة النهائية سلبية.
لدى إيران مخطط واضح لتحويل سوريا التي مزقتها الحرب إلى جبهة عسكرية هائلة ضد إسرائيل، ودمجها مع الجبهة في لبنان كجزء من خطة استراتيجية لتطويق إسرائيل وإنشاء ممر متواصل الأجزاء للسيطرة الإيرانية الفعلية التي تمتد إلى البحر الأبيض المتوسط. وفي السنوات الأخيرة، حددت إسرائيل خطوطها الحمراء فيما يتعلق بتورط إيران في سوريا وقامت بإنفاذها من خلال العمليات العسكرية المستمرة – وهي حملة ناجحة نسبياً ولكنها تنطوي على خطر نشوب صراع إسرائيلي -إيراني أوسع نطاقاً. ومن هذا المنطلق، قرأت القدس بشكل صحيح موقف إدارة ترامب على أنه تقسيم للعمل، حيث تمارس الولايات المتحدة ضغوطاً شديدة على إيران، ولكن بشكل أساسي في السياق النووي، وبصورة محدودة على الأدوات الاقتصادية والسياسية. وفي الوقت نفسه، تُرك للقوات المحلية دور المواجهة العسكرية لطموحات إيران الإقليمية، وتأتي إسرائيل في مقدمة هذه القوات.
ونظراً لمبدأ إسرائيل التوجيهي للدفاع عن النفس بصورة مستقلة، وواقع عدم رؤية واشنطن بأن سوريا تشكل أمراً حاسماً لمصالحها الأمنية القومية، فإن الإسرائيليين لم يتوقعوا أبداً أن تؤدي القوات الأمريكية دوراً نشطاً في الحملة لمجابهة إيران عسكرياً هناك. ومع ذلك، أعربوا عن أملهم في أن تقوم الإدارة الأمريكية بدمج أصولها وأنشطتها العسكرية الموجودة في سوريا في استراتيجية متماسكة لمنع أنشطة إيران المزعزعة للاستقرار في المنطقة. وقد أحيا هذه الآمال كبار أعضاء فريق الأمن القومي للرئيس ترامب، الذين ربطوا في الأشهر الأخيرة مراراً وتكراراً الوجود العسكري الأمريكي المستمر في سوريا بالوجود الإيراني فيها.
إلا أن ترامب بدّد هذه الآمال على نحو مفاجئ، فربط قرار الانسحاب بالحرب ضد تنظيم «الدولة الإسلامية»، وبالتالي أكّد أن الوجود الأمريكي في سوريا لم يكن جزءاً من استراتيجية أوسع نطاقاً ضد إيران. وليس هناك شك بأن الولايات المتحدة تدعم إسرائيل وأصحاب المصلحة الإقليميين الآخرين في تلك الاستراتيجية، وقد شكّلت العقوبات الاقتصادية الأخيرة ضغوطاً على استثمارات إيران الخارجية، ولكن يبدو أن واشنطن غير راغبة في تولي دور قيادي استباقي في هذه الحملة الإقليمية.
ويشعر المسؤولون الإسرائيليون بالقلق لأن الانسحاب الأمريكي سيؤثر على منطقتين رئيسيتين: (1) قاعدة التنف، والمنطقة العازلة المحيطة بها في جنوب شرق سوريا التي يبلغ طولها خمسة وخمسون كيلومتراً، وتقع على الطريق الاستراتيجي بين بغداد ودمشق، و (2) المنطقة الكردية شبه المستقلة في شمال شرق سوريا. وقد أعاقت هذه المناطق (وخاصة التنف) فروع الممر الذي تخطط له إيران والذي يصلها بالبحر المتوسط. وبالمثل، يشعر الأردن بالقلق إزاء إخلاء التنف لأن ذلك قد يسمح بنشر وكلاء إيرانيين بالقرب من حدوده – مما يشكّل مصدر قلق كبير بالنسبة لإسرائيل التي تعتبر استقرار المملكة أمراً حاسماً.
وإذا أزيلت هذه الحواجز الرئيسية، بإمكان لإيران ووكلائها تكثيف جهودهم بسرعة لاستكمال الممر واستخدامه لنقل القوات والأسلحة إلى سوريا وعبرها براً، مما يقلل من اعتمادهم الكبير على الممرات الجوية الإشكالية ويسهم في تطوير البنية التحتية العسكرية بشكل أكبر داخل سوريا ولبنان. وعليه، فلن يكون أمام إسرائيل أي خيار سوى الرد على هذا التحدي بقوة. وقد تراجعت المواجهة الإسرائيلية-الإيرانية في سوريا في الأشهر الأخيرة، ويرجع ذلك أساساً إلى تدخل موسكو القوي مع كلا الطرفين في أعقاب سقوط طائرة عسكرية روسية هناك في أيلول/سبتمبر. وبعد ذلك، تحوّل تركيز المواجهة إلى لبنان، حيث سعى «حزب الله»، عميل إيران، إلى إنتاج صواريخ عالية الدقة وحفر أنفاق هجومية تصل إلى داخل إسرائيل. ومع ذلك، يمكن أن تندلع الأعمال العدائية مجدداً في سوريا وبسهولة، لا سيّما إذا كثّفت إيران أنشطتها هناك بعد الانسحاب الأمريكي.
ومن وجهة نظر القدس، فحتى الوجود المتواضع للقوات الأمريكية غير الفعال في مواجهة إيران قد يضيف قيمةً إلى الهدف المتمثل في ردع موسكو وطهران، فهو يؤكّد دعم الولايات المتحدة لإسرائيل في وقت كانت تخاطر فيه بخوض حرب مع إيران واندلاع صراع محتمل مع روسيا. وقد سعى الكرملين بالفعل إلى الحد من حرية تصرف إسرائيل في سوريا منذ أزمة سقوط الطائرة في أيلول/سبتمبر، حيث ألقى اللوم على القوات الإسرائيلية نتيجة خطأ فادح ارتكبته الدفاعات الجوية لنظام الأسد. وحتى الآن، لم تنتعش العلاقات الثنائية تماماً بعد.
ويؤمن المسؤولون في وزارة الدفاع الإسرائيلية أن توجيه هذا اللوم إلى إسرائيل كان أحد التكتيكات التي تتبعها روسيا للحث على التوصل إلى تفاهمات محتملة مع واشنطن بشأن الانسحاب من سوريا، من بين قضايا أخرى. فوفقاً لتقارير وسائل الإعلام الصادرة مؤخراً، اتصلت موسكو بمسؤولين إسرائيليين في أيلول/سبتمبر بشأن فتح حوار مع الولايات المتحدة، وذلك جزئياً للإعراب عن رغبتها في طرد القوات الإيرانية ووكلائها من سوريا. وفي المقابل، كان سيُطلب من واشنطن تجميد العقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران أو تخفيفها، وإخراج قواتها من سوريا. غير أنّ المسؤولين الإسرائيليين رفضوا الاقتراح بشكل أساسي لأنهم لا يريدون تشجيع أي تخفيف للعقوبات المفروضة على إيران؛ بيد، يعتقد البعض أنه كان بإمكان إدارة ترامب أن تستغل اهتمام روسيا كورقة تفاوض لإستخلاص تنازلات قبل سحب القوات. ولكن للأسف، أدّى إعلان ترامب إلى منح موسكو وطهران ما يريدانه مجاناً.
وبالنظر إلى المستقبل، يشعر بعض المسؤولين الإسرائيليين بقلق شديد حيال واقع استمرار واشنطن إظهار عزوفها عن اللجوء إلى القوة العسكرية في المنطقة، واضعة سياساتها القسرية على أساس الضغط الاقتصادي. كما أنهم يتساءلون عمّا ستفعله الإدارة الأمريكية إذا جددت إيران برنامجها النووي واقتربت من احتمالات اختراق خطيرة. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، هل تعتبر واشنطن ذلك بمثابة خط أحمر يرغم الولايات المتحدة على اللجوء إلى الخيار العسكري، أم تتوقع من إسرائيل أن تتولى معالجة هذه المشكلة؟
وبعيداً عن المخاوف الإيرانية، فإن إعلان الانسحاب الأمريكي قد أقلق المسؤولين الإسرائيليين في السياق الإقليمي الأوسع. فمن خلال تعزيز مفاهيم التراجع الأمريكي، تشير هذه الخطوة إلى أنه يجب على الجهات الفاعلة الإقليمية التعامل مع روسيا من أجل حماية مصالحها. بالإضافة إلى ذلك، تم اتخاذ القرار بالتنسيق مع تركيا، وهي الدولة التي زادت من حدة خطابها المعادي لإسرائيل في الآونة الأخيرة. وتجدر الإشارة أيضاً إلى أن الحلفاء الرئيسيين الآخرين للولايات المتحدة غير راضين عن إذعان واشنطن الواضح لأنقرة، فضلاً عن السعودية ومصر. ومع ذلك، فإن أحد الجوانب المشرقة لهذه الأحداث المثيرة للمشاكل هو أنها قد تحفز الدول العربية الرئيسية على تعميق تعاونها مع إسرائيل، التي تعتبرها شريكاً يمكن الاعتماد عليه في النضال ضد التهديدات الإسلامية، السنية أو الشيعية.
الخاتمة
من الضروري أن تتكيف إسرائيل مع الوضع الجديد وتستمر في اتخاذ إجراءات ضد ترسيخ الوجود العسكري الإيراني في سوريا، كما فعلت في الأسابيع الثلاثة منذ إعلان ترامب. وستسعى على وجه الخصوص إلى إعادة صياغة التفاهمات مع موسكو بشأن سوريا، والتأثير في كيفية تنفيذ الانسحاب الأمريكي (على سبيل المثال، وضع جداول زمنية، وترك الوحدة الأمريكية في التنف، واستمرار العمليات الجوية، وما إلى ذلك)، والحصول على ضمانات أمنية أمريكية إضافية، تشمل الاعتراف بضم إسرائيل لمرتفعات الجولان. وبينما تبدو الإدارة الأمريكية متنبهة لبعض هذه الطلبات وتبذل جهداً كبيراً للتخفيف من الانطباع الإقليمي السلبي لقرار الرئيس ترامب، إلّا أن الآثار الطويلة الأجل المترتبة على الوضع لا تزال تلوح في الأفق في القدس ولا يمكن تجاهلها.
– مايكل هيرتسوغ، جنرال صهيوني متقاعد وباحث في معهد واشنطن. وشغل سابقاً منصب رئيس “قسم التخطيط الاستراتيجي” في الجيش الصهيوني ومدير الموظفين لعدد من وزراء الحرب الصهاينة.