إعادة بناء سورية: الأولويات، مصادر التمويل، الآفاق (23) حميدي العبدالله
إذن مقاطعة الغرب لعملية إعادة إعمار سورية، فضلاً عن أن إسهامات الغرب في تمويل عملية إعادة البناء وفقاً لتجارب سابقة لا يعوّل عليه، إضافةً إلى ذلك يعاب على عملية إعادة الإعمار تحكم الغرب بهذه العملية وإخضاعها لخدمة مصالحه وتغيير أولوياتها بما ينسجم مع عملية النهب التي يقوم بها عادةً في أي بلد يسيطر عليه، وتوجيه هذه العملية نحو المرافق والقطاعات التي تخدم مصالحه وحده، وحرمان الدولة المعنية من الفائدة التي يتوقع أن تنجم عن عملية إعادة الإعمار.
إن رفض الغرب المساهمة بإعادة إعمار سورية بناء على كل ذلك لا يشكل حدثاً سلبياً، ولا يحرم سورية من مصدر من مصادر التمويل الواعدة التي يمكن أن يراهن عليها في عملية إعادة الإعمار.
استناداً إلى كل ذلك، ولأن مساهمة الحكومات والشركات الغربية في عملية إعادة الإعمار ستكون معدومة، وعلى أية حال غير مرغوب بها لما لها من نتائج سلبية على عملية إعادة الإعمار، فإن مصادر إعادة إعمار سورية ستكون من المصادر الآتية:
أولاً، مصادر تتكفل الدولة السورية بتأمينها. ومما لا شك فيه أن لدى الدولة السورية مصادر لتمويل إعادة الإعمار تؤهلها لأن تكون المساهم الأكبر والأكثر تأثيراً في هذه العملية، سيما إذا اتخذت إجراءات فعالة لمكافحة الفساد والهدر، وهذه عملية مطلوبة بقوة في مرحلة إعادة الإعمار لأن الدولة بحاجة إلى كل قرش وليس لديها الوضع المريح الذي كان قائماً قبل الحرب التي دمرت كل شيء، وإذا كان قبل الحرب ثمة غضّ نظر أو تراخي في مكافحة الفساد والهدر والذي تقدر نتائجه بمليارات الدولارات، فإن الوضع بعد الحرب والحاجة الماسة إلى إعادة بناء وإعمار سورية، تجعل أي تساهلٍ مع الفساد والهدر هو أقرب إلى العمل الكارثي منه إلى أي شيءٍ آخر. حاولت الدولة قبل الحرب اتخاذ إجراءات كثيرة لمحاربة الفساد، ولكن جميع هذه الإجراءات لم توصل إلى النتيجة المرجوة، وبديهيٌ القول إن القضاء على الفساد بصورة ٍكاملة في مجتمع ودولة نامية هو أقرب إلى الحلم منه إلى أي شيء آخر، وبالتالي كي تنجح حملة جديدة في مكافحة الفساد لا بد أن تستند إلى تصورات واقعية تأخذ بعين الاعتبار تقليص مستوى الهدر الناجم عن الفساد.
للحد من تفشي الفساد ومحاصرة مظاهره السلبية الأكثر هدراً للمال العام الذي تحتاجه سورية استثنائياً في مرحلة إعادة الإعمار أساليب عديدة ربما لا تختلف من حيث الجوهر عن الأساليب التي تُعتمد لمحاربة الفساد في الظروف العادية لكنها ترتدي أهميتها في الوضع الراهن في سورية وبعد كل هذا الدمار وبعد استنزاف مقدرات الدولة والمواطنين في سورية طيلة سنوات الحرب التي امتدت إلى ثمانِ سنوات واستهدفت بشكلٍ مقصود ومتعمد كل المرافق الاقتصادية ومصادر الثروة. ويأتي في مقدمة هذه الأساليب سنّ القوانين والتشريعات الشفافة. ففي غالب الأحيان يستشري الفساد عندما تكون نصوص القوانين المكرسة لمكافحة الفساد نصوصاً عامة وحمالة أوجه وفيها الكثير من الثغرات, وعادة يستغل المنخرطون في أعمال الفساد هذه الثغرات لارتكاب فعلتهم. من هنا فإن سنّ قوانين واضحة لا لبس فيها ولا غموض يشكل الخطوة الأولى في عملية مكافحة الفساد، وبالتالي توفير الهدر الذي تتسبب به، وتحويل العائدات المهدورة لتكون مصدراً من مصادر تمويل عملية إعادة الإعمار.
لا تكفي القوانين وحدها لمكافحة الفساد، إذ لا بد من تشكيل هيئات قادرة على مراقبة تطبيق هذه القوانين، وكي تقوم هذه الهيئات بدورها على أكمل وجه يجب أن لا يكون بينها وبين أجهزة الدولة التنفيذية أي تداخل، وينبغي أن تكون محصّنة قضائياً ومدعومة من السلطات السياسية العليا وتحظى برضىً وقبول شعبي.
كما أنه بات واضحاً أن نجاح عمليات مكافحة الفساد مرتبطة بأتمتة أجهزة الدولة المختلفة، واختصار سلسلة الاحتكاك بين العاملين في أجهزة الدولة المختلفة، وبين أصحاب المصلحة والحاجة لدى هذه الأجهزة، وكلما قادت الأتمتة إلى تقليص فرص التقابل، كلما تراجعت إمكانية حدوث وقائع فساد تقود إلى إهدار المال العام، فضلاً عن أن الأتمتة من شأنها أن تسرع بإنجاز المعاملات وتساعد على وضع حدٍّ لهدر الوقت في مراجعة أين وصلت المعاملات في دوائر الدولة المختلفة. الروتين عادةً هو البيئة التي تقود إلى تنامي مظاهر الفساد وثمة ارتباطٌ قويٌّ بين انتشار الفساد وسطوة البيروقراطية، وبالتالي من الملح في عملية مكافحة الفساد التخلص من العديد من اللوائح غير الضرورية التي تهدر وقت المواطنين, والتخلص من هذه اللوائح لا يعني بأي حال من الأحوال التخلي عن الأسس التنظيمية للدولة، بل تحويلها واختصارها من خلال عملية الأتمتة بما تمثله كتكنولوجيا ذكية من تأثير على الاتصال المباشر المتكرر بين المسؤولين في الدولة وبين المواطنين. إن التكنولوجيا الذكية تشجع على وجود علاقة تتسم باستقلالية أكبر بين المسؤولين في الدولة وبين المواطنين، وقد أثبت الإنترنت أنه أداةٌ فعالة في مكافحة الفساد. وقد برهن استخدام الإنترنت في بعض البلدان في اختصار تعامل المواطنين ورجال الأعمال مع أجهزة الدولة المختلفة وقاد ذلك إلى تحصيل ضرائب أعلى وحماية المشتريات العامة من التبذير والهدر، إضافةً إلى محاربة الروتين.
من المفيد أن تتشكل الهيئات المعنية بمكافحة الفساد أولاً من أشخاص متحمسين للعمل ضد الفساد، ويمتلكون الرؤية الواضحة وحصلوا على التأهيل اللازم من خلال اضطلاعهم على تجارب أخرى دولية في مكافحة الفساد، ومن المفيد أيضاً أن يتكون عناصر هذه الهيئات من الشباب ومن أصحاب الخبرات الذين خدموا في دوائر الدولة المختلفة، ولكن عرف عنهم نظافة الكف والنزاهة، ورفضهم الصلب لكل مظاهر الفساد وإهدار المال العام.
ومن نافل القول إن نجاح عملية مكافحة الفساد تتطلب أن لا يكون أحد فوق القانون وأن لا يحابى أشخاص لأي سبب كان عندما يشغلون مناصب رفيعة في الدولة لها صلة مباشرة أو تؤثر على حركة التصرف بالمال العام.
إذن هناك علاقة بين قدرة الدولة على توفير وصيانة مواردها الخاصة وتكريسها لخدمة عملية إعادة الإعمار، وعملية مكافحة الفساد.
وإذا كانت عملية مكافحة الفساد في سورية في مرحلة إعادة الإعمار وبعد إنفاق مدخرات الدولة والمواطنين في سنوات الحرب السابقة، هي قضية حياةٍ أو موت، فإن نجاح هذه العملية، أي عملية مكافحة الفساد، بات مرتبطاً بإجراءات ثمّة إجماعٌ عالميٌ عليها ومن أهمها عشرة إجراءات: هي الحكومة الإلكترونية، أي أتمتة أجهزة الدولة وتوظيف الإنترنت في عملية مكافحة الفساد، والتحول إلى الاقتصاد غير نقدي قدر المستطاع، واعتماد الشفافية من خلال توضيح مصادر الدخل وأوجه الإنفاق، ومعاقبة المروجين له والمساعدين على انتشاره، وتحسين الأجور قدر المستطاع، واستخدام وسائل الإعلام وإعطائها حرية القيام بدور مراقبٍ لنشاط أجهزة الدولة ولاسيما تلك التي لها صلة بإنفاق وتحصيل المال العام، ومنح بعض المؤسسات الأهلية حرية توجيه الانتقاد وكشف مظاهر الخلل، وتوظيف الكفاءات والفصل بين السلطات.
من الناحية النظرية، ربما غالبية هذه القواعد اعتمدت في مكافحة الفساد في سورية في الفترة السابقة، ومع ذلك لم تحقق النتائج المرجوة، ربما باستثناء الحكومة الإلكترونية التي لم تجرب بعد. اليوم سورية بحاجة إلى اللجوء إلى هذه الوسيلة التي برهنت على فعاليتها في سياق أي عملية جديدة لمكافحة الفساد تواكب عملية إعادة الإعمار لتوفير المال العام وحماية مصادر الدولة في عملية إعادة البناء.