معسكر الحرب الأميركي يناور توظيف أوكرانيا في محاصرة روسيا د.منذر سليمان
حرصت الادارات الأميركية المتعاقبة على محاصرة روسيا بقواعد عسكرية أميركية، أحياناً، وضرب طوق بنظم سياسية موالية لواشنطن بالدرجة الأولى، والحفاظ على فتيل الصراع مشتعلاً معها لاستنزافها في كافة المجالات. فرضية أضحت أمراً واقعاً وثابتاً في السياسات الأميركية.
المؤسسة الأميركية الحاكمة بتشعباتها المتعددة، الأمنية والاستخباراتية والعسكرية وتوظيفها لسلاحها الناجز في وسائل الإعلام، شكلت بإجماعها سداً حصيناً للنيل من الحكومة الروسية، لا سيما الرئيس فلاديمير بوتين بشكل محدد، وإبلاغ من يعنيهم الأمر بأن الرئيس “بوتين لا ينبغي أن يقفز إلى مرتبة أعلى (مقبولة) كرئيس لدولة ثانوية ولن يسمح له التصرف كما يشاء” في القضايا العالمية المتعددة.
لقاء قمة هلسنكي بين الرئيس ترامب ونظيره الروسي، 16 تموز/يوليو 2018، جاء ثمرة وعود انتخابية قطعها ترامب “لتحسين العلاقات الثنائية” ويخرج فيها على “اجماع” المؤسسة الحاكمة والالتفاف على مخططات عزل روسيا، وليس احتواcها مما أكسبه “احتقار اركان المؤسسة وإهانته علناً. لقاءات القوتين العظميين دشنها الرئيس الأسبق فرانكلين روزفلت عام 1933 باصداره قرار الاعتراف بالاتحاد السوفياتي.
بعض الصحف خرجت في اليوم التالي معبرة عن عدم رضاها بالقول على صدر صفحاتها الأولى “لا، لم يكن هناك حاجة (لترامب) للقاء بوتين،” أتبعته المؤسسة بانزال مزيد من العقوبات الاقتصادية والمصرفية بشكل خاص ضد المؤسسات والشخصيات الروسية.
جدير بالذكر أن محاولات الولايات المتحدة والدول الغربية في حلف الناتو بشكل خاص مستمرة للنيل من سيادة الدولة الروسية، وعملت بالمثل إبان حقبة الإتحاد السوفياتي، لتقويض ركائز الدولة.
يعتقد المراقبون في واشنطن أن تبني الرئيس روزفلت مبدأ “دولة الرعاية الاجتماعية،” باصداره قرار أنشاء “صندوق الرعاية الاجتماعية،” 14 آب/أغسطس 1935، كان ثمرة نهج منظم لمواجهة النظام الاشتراكي السوفياتي لتوفير “بعض الفوائد” للنظام الرأسمالي، وليس كما يشاع بأنه جاء لاحتواء تداعيات الأزمة الاقتصادية الكبرى لعام 1929 والحيلولة دون تكرارها.
سياق التحرشات الأميركية
شهد عام 2014 أبرز تجليات التدخل الأميركي المباشر في الحديقة الخلفية لروسيا، بتشجيع قوى مناوئة لموسكو في اوكرانيا للإطاحة بالحكومة وإطلاق “الثورة البرتقالية” في مجمع ميدان العاصمة كييف.
وكانت مساعد وزير الخارجية الأميركية للشؤون الأوروبية والآسيوية، فيكتوريا نولاند، دائمة الحضور في “ميدان،” ونقلت وسائل الإعلام صورا لها وهي توزع “البسكوت” على المتظاهرين، كانون أول/ديسمبر 2013 ، برفقة طواقم حراساتها الأميركية المسلحة، في “مشهد رهيب لكن تم إعداده بشكل دقيق،” وفق توصيف زملائها السابقين.
التطورات اللاحقة لمسرحية “ميدان” أوصلت إلى الحكم في كييف طاقما سياسيا مدعوما من واشنطن بالكامل كانت مهتمه التحرش بروسيا لاستفزازها عسكرياً مما يشكل أرضية ومبرراً لتدخل “دولي” بقيادة حلف الناتو. بيد أن الرئيس الروسي استبق الأمر بإطلاق استفتاء شعبي لسكان القرم للإنضمام لروسيا الأم مستعيداً السيطرة على شبه جزيرة القرم، تبعها اندلاع مواجهات مسلحة بين الجارتين بقيت تحت السيطرة مما أفقد المخطط المعادي الزخم الأصلي.
الرد الغربي الثابت كان في شن عقوبات اقتصادية جماعية ضد موسكو بحجة انتهاكها لسيادة اوكرانيا، ولا زالت حالة التوتر قائمة لليوم لكنها “تحت السيطرة.”
أما الحادث الأخير، في مضيق كيرتش ببحر آزوف، فقد تزامن مع تقارب انعقاد قمة روسية أميركية، على هامش مؤتمر الدول الصناعية العشرين، في الأرجنتين، وعزوف الرئيس ترامب عن نيته لقاء الرئيس بوتين، وحتى اللحظات الأخيرة بعد انتهاء “الاشتباك” العسكري المحدود في مياه مضيق كيرتش.
وهنا أيضاً كانت المؤسسة الأميركية الحاكمة بأركانها المتعددة جاهزة للضغط مرة أخرى على الرئيس ترامب وتفرض عليه تراجعاً في موقفه الراغب باللقاء، وإن لم يكن بشكل رسمي، كما تقتضيه الديبلوماسية، بل فضل الإعلان عنه عبر تغريدة له.
بداية، يعتبر مضيق كيرتش جزءاً من المياه الإقليمية لروسيا بنت عليه موسكو جسراً عملاقاً عقب “عودة” شبه جزيرة القرم للاتحاد الروسي، وتسمح روسيا للقطع البحرية والملاحة “بالعبور البريء” فيه شريطة عدم انتهاك القوانين والاجراءات السارية وإبلاغ السلطات الروسية المعنية بخط السير وطبيعة الحمولة.
اوكرانيا لا تعترف لروسيا بسيادة على شبه جزيرة القرم وكذلك الأمر مع شواطئها وموانئها البحرية، بيد انها تضطر للتعامل وفق القوانين الروسية الناظمة للملاحة. وأصدرت حكومتها أمراً لـثلاثة زوارق “سفينتين صغيرتين مزودتين بمدفعية وسفينة سحب” على متنهما 24 بحاراً بدخول مياه المضيق دون إبلاغ السلطات الروسية التي تصدت لها واشتبكت معها وتعرض ثلاثة منهم لجراح متوسطة، واحتجزت طاقم البحارة بالكامل. أوكرانيا ادعت أن سفنها “لم ترتكب أي مخالفة” واتهمت روسيا بالعدوان العسكري وطالبت المجتمع الدولي بالتحرك العاجل لمعاقبتها.
تنوعت ردود الأفعال الدولية عند هذا المنعطف بين إدانة صريحة لروسيا وتحذيرها من تفاقم الأزمة إلى دعوات التروي الصادرة عن ألمانيا.
الولايات المتحدة اعتبرت الاجراءات الروسية “انتهاكاً صارخاً لسيادة الأراضي الاوكرانية .. يتعين على المجتمع الدولي التنديد به،” من على منبر الأمم المتحدة. وأصدر وزير الخارجية مايك بومبيو بيانا شديد اللهجة للتنديد بالحادث، لم يقرنه بوعود انتقامية من روسيا. أما الرئيس ترامب فقد التزم الليونة قائلاً للصحافيين يقبل مغادرته للارجنتين “لا نحبذ ما جرى في كلا الاتجاهين .. ونأمل أن يتم احتواء المسألة.”
اما دول الاتحاد الاوروبي فقد طالبت الجانبين، الروسي والاوكراني، ممارسة أقصى درجات ضبط النفس للحيلولة دون تصعيد الموقف، وإعادة فتح المضيق واستئناف الملاحة البحرية بشكل اعتيادي.
مصادر عسكرية في حلف الناتو أبلغت وكالات الأنباء الغربية أن الرئيس الاوكراني، بيتر بوروشينكو، سعى جاهداً دون نتيجة لإقناع واشنطن بإنشاء قاعدة عسكرية لها على الأراضي الاوكرانية؛ رغبة منه في توريط الولايات المتحدة عسكرياً، من ناحية، ولحاجة قواته العسكرية لمساعدة ومهنية حلف الناتو في أي مواجهة محتملة مع روسيا.
بثت شبكة سي أن أن الأميركية خبراً حول وضع القوات الاوكرانية بأنه “مثير للشفقة وهي غير مستعدة لخوض معركة مع روسيا في عرض البحر .. اما القوات البحرية الروسية فلن تواجه سوى مقاومة رمزية” بالقرب من مياه بحر آزوف. بدون مشاركة فعالة من حلف الناتو الى جانب اوكرانيا وفي أي نزاع قد ينشب ستكون القوات الروسية قادرة على الحاق هزيمة عسكرية سريعة بالقوات الاوكرانية اذ لا يوجد مجال للمقارنة بين قوة البلدين.
روسيا، من جانبها، أعلنت عن خططها لنشر مزيد من بطاريات الدفاع الجوي المتطورة، إس-400، على أراضي شبه جزيرة القرم كخطوة احتياطية. واوضحت القيادة العسكرية الجنوبية للاتحاد الروسي أن طواقمها من الاخصائيين والمهنيين منكبون على تجهيز المعدات ونقلها “عبر السكك الحديدية إلى قاعدة ثابتة .. وستدخل المنظومة الجديدة الخدمة العملياتية في المستقبل القريب لحماية الأجواء الروسية؛” تعززها سفينة حربية ترابط في مياه بحر آزوف.
اجواء التوتر والترقب الحذر خيمت على لقاء قمة العشرين، مضاف إليها التنديد الدولي بولي العهد السعودي محمد بن سلمان والمطالبة بعدم مشاركته في القمة، باستثناء واشنطن. وسارعت روسيا لاحتواء الموقف بفتح المضيق واستمرار احتجازها للبحارة الاوكرانيين، مما “حفز طاقم الأمن القومي” في واشنطن الضغط على الرئيس ترامب لإلغاء لقائه المقرر مع الرئيس الروسي على هامش القمة.
الملفت في الأزمة المصطنعة، كما يعتقد المراقبون، ما أوضحته الحكومة الاوكرانية في بيان نشرته يومية واشنطن بوست، 27 نوفمبر، بإعلانها الأحكام العرفية في البلاد؛ واعتراف جهاز الأمن الاوكراني، اليوم عينه، بوجود عدد من ضباط استخباراته بين طواقم البحارة في مهمة “عمليات مكافحة التجسس لصالح سلاح البحرية الاوكراني.”
يشار إلى أن ذاك الجهاز، SBU – State Security Service، اعترف سابقاً بمسؤوليته عن افتعال حادث مقتل الصحافي الروسي آركادي بابشينكو، في كييف، بغية الكشف عن مخطط اغتيالات روسي (30 أيار/مايو 2018)، وثبت لاحقا أنه حي يرزق. وجاء في تعليق لشبكة (بي بي سي) البريطانية أن مدير الجهاز الاوكراني، فاسيل هريتساك، أوضح لها أن عملية لاصطياد قتلة مأجورين من قبل روسيا قد تم اعدادها؛ استحق على أثرها المطاردة بالسخرية وعدم الكفاءة.
في سنوات احتضار الاتحاد السوفياتي قامت واشنطن بعملية “بهلوانية” مشابهة لعملية مضيق كيرتش، وارسلت عام 1988 سفينتين حربيتين على متنهما معدات تجسس دخلتا المياه الإقليمية السوفياتية بالقرب من شبه جزيرة القرم؛ صدمتهما البحرية السوفياتية وغادرتا على الفور “قبل تصعيد الأمر.”
تلك الإشارة كانت ضرورية لسبر أغوار ما يعد من خطط عدوانية ضد روسيا، بطولة الرئيس الاوكراني الذي “لا يحسن قراءة الخرائط الاستراتيجية والمتغيرات الدولية،” وأشد ما يراهن عليه وهو مقبل على جولة انتخابات قاسية هو الظهور بمظهر “رئيس حرب” جدير بإعادة انتخابه.
استطلاعات الرأي الاوكرانية ترجح أن شعبيته هي في معدل لا يتعدى 10%، وتفصله عن منافسيْه الآخريْن مسافة بعيدة. وهذا ما يعزز الهدف من قراراه بفرض الأحكام العرفية في هذا الظرف المفصلي بالذات، والتحكم التام بمجريات الانتخابات وطواقم الإشراف عليها.
منافسته الأقوى في الانتخابات ورئيسة الوزراء السابقة، يوليا تيموشينكو، حذرت في تصريح لها في تموز/يوليو 2018 من إعداد بوروشينكو “خطة بالغة الخطورة لإعاقة سير الانتخابات عبر تصعيد وتيرة الحرب في (إقليم) دونباس وفرض الأحكام العرفية في اوكرانيا.”
فرض الأحكام العرفية، وفق دستور البلاد، يستدعي تصويت البرلمان عليه وتبنيه. بيد أن الحضور البارز لأحزاب مناوئة لبوروشينكو في المجلس أفشل “بعض” خططه، إذ نال الموافقة على “فرض أحكام عرفية مصغر” مدته 30 يوماً بدلاً من 60 يوم قابلة للتجديد.
قد يلجأ بوروشينكو للالتفاف على ضوابط الدستور وبشكل خاص اجراء الانتخابات في 31 آذار/مارس المقبل كما هو مقرر، وهوالأمر المفضل عنده للبقاء على رأس السلطة، عبر افتعال نشوب حرب ولو محدودة في شرقي البلاد، منطقة دونيتسك، أو السعي لاستعادة مطار دونيتسك، “أو الاشتباك مع روسيا مباشرة،” لا سيما وأنه يتمتع بدعم وتأييد عدد من المؤسسات الأميركية النافذة في صنع القرار السياسي الطامعة في تحدي موسكو “بشكل متدرج.”
مركز الأبحاث المؤيد لحلف الناتو والحكومة البريطانية، أتلانتيك كاونسيل، والبعض يقول أن تمويله يأتي من ميزانية الحلف وبعض الدعم المالي من دول الخليج العربي، حث السلطات الأوكرانية، 26 نوفمبر الجاري، على “دعوة الولايات المتحدة وحلف الناتو لإرسال اسطول من السفن الحربية لزيارة (ميناء) ماريوبول” المدينة الرئيسة على شاطيء بحر آزوف “وتحدي روسيا على إطلاقها النار أو أعاقة قطع الحلف من زيارة الموانيء الاوكرانية.”ما غاب عن “خبراء” المعهد قراءة صحيحة لجغرافية المنطقة. فالوصول إلى ميناء ماريوبول يستدعي عبور مياه مضيق كيرتش، وهو ضيّق على أي حال لا يتعدى عمق مياهه في تلك المنطقة 8 أمتار، مما يعيق أي عملية للمناورة العسكرية أن تطلب الأمر.
هل تلجأ واشنطن لقرع طبول الحرب ضد روسيا والصين أيضا؟ سؤال يتردد على ألسنة العديد من السياسيين والمراقبين على السواء. قبل المرور على إجابة مقنعة، ينبغي النظر إلى ما تعده الولايات المتحدة من توسع وتدخل عسكري في دول اوروبا الشرقية السابقة، والأعضاء بحلف الناتو لتطوير المطارات العسكرية وتسهيلات أخرى.
تبلغ حصة هنغاريا من “المساعدات” الأميركية نحو 50 مليون دولار؛ 60 مليون دولار لتحديث قاعدتين جويتين في رومانيا؛ 100 مليون لتطوير قاعدتين عسكريتين في سلوفاكيا، بالاضافة لمبالغ طائلة أخرى لدول المنطقة.
قائد القوات البحرية الأميركية في اوروبا، الأدميرال جيمس فوغو، تحدث عن خطط بلاده المقبلة في اوروبا أمام حشد في المعهد البحري للولايات المتحدة، الشهر الماضي،قائلا “من الضروري لنا توفر تواجد بحري واسع في اوروبا يفوق ما كان لدينا في العقدين أو الثلاثة الماضيين.” واسترشد الأدميرال بمجموعة السفن البحرية المشتركة والعاملة بالطاقة النووية “هاري أس ترومان و ايوا جيما” في مياه المحيط الهاديء بالقرب من الصين والتي من شأنها “إرسال رسالة شديدة القوة بأن الولايات المتحدة لها الحرية بالعمل في اي مكان، أما على انفراد أو بالتعاون من شركائنا وحلفائنا في حلف الناتو.”
بعض العقلاء في واشنطن يفضلون أن يلتقي الرئيسان الأميركي والروسي في بيونيس آيريس، ولو لمشاورات قصيرة، دون الالتفات إلى التخبط الديبلوماسي الأميركي، لا سيما وأن احداث اوكرانيا لوحدها تستدعي تبادل الآراء وعدم الانجرار لحرب هما في غنى عنها.
الرئيس الروسي من جانبه يراقب بهدوء أي تغيرات أو ايماءات قد تصدر عن المؤسسة الأميركية أو الرئيس ترامب، أو كليهما معاً. تفاعل الرئيس ترامب مع مسألة اوكرانيا سيحسم لدى نظيره الروسي ما تخبئه واشنطن من خطط ونوايا مقبلة، سواء الذهاب بالتصعيد، أو تفادي الحديث بمضيق كيرتش، أو ربما إرساء أرضية لتفاهمات مقبلة في الساحة السورية.
أما السلاح الأميركي دائم الجهوزية ضد روسيا،أي تطبيق عقوبات اقتصادية، فلم يعد له ذات المفاعيل القاسية كما في مراحل سابقة عقب إعلان روسيا عن تخليها تدريجيا عن التعامل المصرفي بالدولار الأميركي؛ وتعويلها على تعميق الخلافات الأوروبية الأميركية على خلفية حاجة اوروبا الماسة لموارد الطاقة الروسية.