إعادة بناء سورية: الأولويات، مصادر التمويل، الآفاق (13) حميدي العبدالله
ثانياً، صناعات الثروة الحيوانية. تأتي هذه الصناعات بالمرتبة الثانية بعد الصناعات الزراعية كون سورية تمتلك في هذه الصناعة ميزةً تنافسية نابعة من ما لديها من ثرواتٍ حيوانية (أبقار، أغنام، ماعز) بسبب سعة الأراضي السورية ومناخ سورية المعتدل، الذي يوفر بيئةً مناسبةً لتربية الماشية، فضلاً عن انخفاض كلفة هذه العملية بالمقارنة مع بلدان أخرى ظروفها المناخية مختلفة.
معروف أن صناعات الثروة الحيوانية، سواء صناعة الحليب والألبان والأجبان ومشتقاتها، أو صناعة اللحوم، تضررت بفعل الحرب، التي استمرت ثمانِ سنوات، مرتَين، المرة الأولى كون الحرب دارت في الأرياف والبادية وضواحي المدن الكبرى، ومعروف أن تربية الماشية ومصانع تصنيع الثروة الحيوانية تتواجد في هذه المناطق. وقد تراجعت أعداد الماشية نتيجةً للظروف الصعبة التي نجمت عن الحرب فتخلص الكثير من العاملين في هذا القطاع من ماشيتهم لأنهم غير قادرين على توفير ما تحتاجه من رعاية، والدولة انحسر وجودها عن مناطق واسعة وتعذر عليها تقديم الدعم لهذا القطاع. وبديهي عندما يتناقص قطاع الماشية، سواء الأبقار أو الأغنام أو الماعز، إلى حدود تقترب من اندثار هذا القطاع تماماً، فإن القدرة على تزويد المصانع المختصة بالمواد الأولية تنعدم، وبالتالي تضطر المعامل إلى إقفال أبوابها. ولهذا أقفلت الكثير من معامل صناعة الألبان والأجبان والحليب والزبدة وغيرها من مشتقات الحليب. كما أغلقت معامل تصنيع اللحوم لأنه لم يعد هناك أعدادٌ كافية من هذه الماشية لتلبية احتياجات صناعة اللحوم، والتَهم طلب الاستهلاك المحليّ المباشر واليومي القليل المتبقي والذي نجا من كارثة الحرب. المرة الثانية تضرر فيها هذا القطاع جراء الحرب إذ أن الكثير من المعامل جرى تدميرها أو تم نهبها وسلب محتوياتها، وغالبية القيمين عليها أعلن إفلاسه ولم تعد لديه قدرات كافية للاستمرار أو إعادة بناء مصانعه من جديد.
أهمية قطاع صناعات الثروة الحيوانية إن بالنسبة للطلب الداخلي وتلبية احتياجات السوق المحلية، أو لجهة التصدير إلى الخارج، والاستفادة من ميزة سورية النوعية والتنافسية في هذا المجال تفرض على الدولة، أن تضع في مخططها التوجيهي في عملية إعادة الإعمار تقديم دعمٍ كبير لهذا القطاع، سواء عن طريق توفير القروض الميسرة وبفائدةٍ متدنية، أو لجهة توجيه الاستثمار نحو هذا القطاع وتقديم تسهيلات وإغراءات للمستثمرين فيه.
الانفاق والاستثمار في هذا القطاع يعود بفوائد كثيرة على خزينة الدولة، ويساعد على خلق فرص عملٍ إضافية، ويسهم في تعزيز الميزانَين التجاري والمدفوعات، وما تقدمه الدولة من قروض، فضلاً عن أنها سوف تستعيدها لاحقاً، فإنها في المقابل تدر على الدولة أرباحاً من خلال توسيع النطاق الضريبي، حتى وإن كانت الضرائب في البداية محدودة المردود نظراً للدعم الذي تحتاجه مصانع هذا القطاع، لكنها عندما ينهض هذا القطاع ويعود إلى ما كان عليه قبل الحرب، ويتوسع انطلاقاً مما تمتلكه سورية من ميزة تنافسية، سوف تستعيد كل ما قدّمته، وبالتالي يتحول الدعم والاستثمار في هذه الصناعة إلى توظيفٍ رابح، يحقق إيجابياتٍ كثيرة، منها ما هو متعلق بمكافحة البطالة وإيجاد فرص عمل جديدة، ومنها ما هو مرتبط بتعزيز أداء وحجم وقدرات الاقتصاد الوطني.
الدعم المطلوب أن تقدمه الدولة وتلحظه خطط إعادة الإعمار يتجلى بالآتي:
أولاً، إزالة الردم من محيط المصانع التي تضررت في الحرب وهي تتبع لقطاع صناعات الثروة الحيوانية، حيث أن استمرار الردم في محيط هذه المصانع يعيق عملية إعادة بنائها، سواء كانت عملية إعادة البناء بمبادراتٍ فردية، أو بجهدٍ مشترك من الدولة والأفراد.
ثانياً، المساعدة على إعادة ترميم المصانع المهدّمة بأسرع وقتٍ ممكن، ويمكن للدولة أن تتحمل جزءاً من عبء إعادة بناء وإعمار هذه المصانع إلى جانب أصحابها.
ثالثاً، تخصيص أراضٍ في مناطق مناسبة وقريبة من مصادر المواد الأولية لبناء مصانع جديدة حيث يتعذر إعادة بناء المصانع القديمة في مكانها السابق، أو للبحث عن فائدة أكبر، واستثمار ميزة التقارب بين مواقع المواد الأولية والمصانع.
رابعاً، تقديم قروضٍ ميسرةٍ من الدولة إلى أصحاب المعامل القدامى أو الجدد الراغبين بالاستثمار في هذا القطاع، وتشجيع المصارف الخاصة على تقديم القروض إلى هذا القطاع، وربما بضمانة الدولة.
خامساً، إعفاء جميع الآلات والمواد التي تحتاجها المصانع من الضريبة الجمركية، على الأقل في فترة إعادة الإعمار، وإذا كان متعذراً الإعفاء الكامل، وضع ضريبة رمزية، لأن من شأن مثل هذه الإعفاءات أن تشجع على الاستثمار في هذا القطاع الصناعي.
سادساً، توجيه الاستثمارات الخارجية للتوظيف في قطاع صناعات الثروة الحيوانية، لأن غالبية الاستثمارات الخارجية ترغب في الاستثمار في إعادة بناء البنية الأساسية لأن العائد المتوقع لهذا الاستثمار، بنظر أصحاب هذه الاستثمارات، أعلى، ولكن من المعروف أن الاستثمار في البنية الأساسية محدّدٌ بأجل انتهاء عملية البناء، في حين أن الاستثمار في قطاع الصناعات المرتبط بتصنيع الثروة الحيوانية هو عمليةٌ دائمة، وأرباح هذا القطاع على المدى الطويل تفوق الأرباح التي يتم تحصيلها من الاستثمار في البنية التحتية.
على أية حال تشمل الصناعات المرتبطة بمواد الثروة الحيوانية مئات المصانع التي تشغل آلاف العاملين، مثل مصانع الألبان والأجبان والحليب ومشتقاته، وصناعة الجلود، وصناعة اللحوم، سواء اللحوم الباردة أو غيرها، وبديهي أن نهوض هذا القطاع والتوسع في مجالاته من شأنه أن ينشط قطاع الثروة الحيوانية، ويدفع أكثر إلى الاعتناء به، ويولّد حوافز لدى الكثير من السكان للتحوّل إلى العمل في قطاع الثروة الحيوانية أملاً بالحصول على المزيد من العائد، في حين أن تراجع عملية التصنيع يقود إلى تراجع الطلب على الماشية، وبالتالي يدفع العاملين في هذا القطاع إلى التحول للعمل في قطاعات أخرى، وبالتالي تصبح المواد الأولية نادرة وقليلة، وتضطر معامل إلى الإقفال، وبالتالي يتم تدبر النقص بالاستيراد من الخارج مع ما يرتب ذلك من انعكاسات سلبية على الميزان التجاري وميزان المدفوعات، وترتفع أسعار هذه الصناعة في السوق الداخلية، وتضعف قدرتها على المنافسة، سواء في السوق الداخلي أو في أسواق التصدير.