إعادة بناء سورية: الأولويات، مصادر التمويل، الآفاق (12) حميدي العبدالله
لا شك أن غالبية المواد الأولوية التي تمتلك فيها سورية ميّزة قابلة للتصنيع، وقادرة على إطلاق صناعة سورية يمكنها منافسة السلع المماثلة في الأسواق الخارجية. لكن سورية، وحتى قبل الحرب المدمرة, كانت تعاني من خللٍ على هذا الصعيد، ويتجسد الخلل في أمرَين أساسيَين، الأول، أن كل ما ينتج من مواد، سواء جرى تصنيعها أو ظلت مواداً خام تباع في السوق الداخلي السوري. ومعروف أن السوق الداخلي السوري هو سوق محدود، إذ لا يتجاوز عدد المستهلكين 24 مليون نسمة، ولذلك عادة يكون في ذروة المواسم كساد لمواد وسلع كثيرة، ومعروف أنه عندما يقل الطلب تنخفض الأسعار، وفي غالب الأحيان يصل هذا الانخفاض إلى مستوى دون الكلفة، وبالتالي هذا الواقع يدفع المنتجين للعزوف عن مواصلة عملية الإنتاج، والتحوّل إلى العمل في مجالات أخرى، الأمر الثاني، أن بعض المواد يجري تصنيعها، ولكن في مراحل أولى، وهي المراحل التي عادةً لا تنتج القيمة المضافة المطلوبة التي تدر على المنتج عائداً مجزياً وتدفعه للتمسك بمجال إنتاجه، بل حتى العمل على توسيعه سعياً للحصول على مزيد من الأرباح.
في عملية بناء القطاع الصناعي المطلوب تغيير هذا الواقع، أولاً، البحث عن منافذ للتصدير على امتداد العالم، أو على الأقل إلى جميع البلدان التي يجري تبادل تجاري معها، مثل دول البريكس والدول العربية، وبعض الدول الأوروبية، وبديهي أن تصدير المنتجات إلى هذه الدول يوسّع نطاق السوق، ويقوي الطلب، صحيح أنه يرفع أسعار هذه السلع في السوق المحلية، وقد تتضرر بعض شرائح المستهلكين، ولكنه في المقابل يعود بفوائد تفوق كثيراً الأضرار، من بين هذه الفوائد توسيع قاعدة الإنتاج، سواء كان إنتاج المواد الأولية، أو الصناعات المرتبطة بالمواد الأولية، وهذا من شأنه خلق فرص عمل إضافية، كما أنه يساعد على تراكم رأسمال بالنسبة للمنتجين بسرعة كبيرة، ويدفعهم إلى ضخ المزيد من الاستثمارات، ومن شأنه علاوةً على كل ذلك أن يترك أثراً إيجابياً على الميزان التجاري وميزان المدفوعات، وبالتالي يساعد في تقوية العملة الوطنية، ويعزر من مخزون الدولة من العملات الصعبة، وكل ذلك ينعكس إيجاباً على مستوى معيشة المواطنين من كل شرائح المجتمع السوري.
أما السلع القابلة للتصنيع والتي تمتلك فيها سورية قدرةً تنافسية فيمكن لحظ أبرزها أولاً، في الصناعات الزراعية. يأتي القطن في مقدمة هذه الزراعة القابلة للتصنيع. فالقطن يصنع في البداية من خلال عملية الحلج، وبعد ذلك تحويله إلى خيوط، ومن ثم تحويله إلى نسيج، وبعد ذلك إلى ملابس، وفي كل مرحلة من المراحل لها صناعات خاصة تستوجب بناء وتشييد مئات، بل آلاف المصانع التي تكون قادرة على تشغيل عشرات آلاف الأيدي العاملة. بعد القطن يأتي الصوف, ومعروف أن ثروة سورية الحيوانية، وتحديداً الأغنام كانت ثروةً هامة نظراً لطبيعة الجغرافية والمناخ السوري، ويمكن ترميم وتعويض ما تضرر في الحرب، وإطلاق صناعة من مشتقات الصوف أيضاً على هيئة خيوط ومن ثم نسيج، وأخيراً ملابس. واستعمالات أخرى. الزيتون في سورية من أهم المحاصيل وتحتل سورية مرتبةً متقدمة، واليوم يجري في كل أنحاء العالم تنافس على تصدير هذه المادة التي تصاعد الطلب عليها، ويمكن تصنيع هذا المنتج الزراعي لحاجات ومتطلبات التصدي، سواء كزيت، أو زيتون. الفواكه والحمضيات، حيث لم تعد هناك أي دولة في العالم تكتفي باستهلاك ما تنتج في فترة المواسم، بل ثمّة صناعات واسعة تعتمد على هذه المنتجات، ومنها صناعات العصائر والفواكه المجففة، ومعروف أن هذه الصناعات قادرة على احتواء المواسم في ذروتها والحؤول دون حالات الكساد، وأيضاً تعظيم القيمة المضافة من خلال تصنيع هذه المنتجات. لا شك أن سورية عملت في هذا المجال وحققت قبل الحرب نجاحات ٍكبيرة، ولكن لا تزال الكثير من المواد تصدّر كمواد خام، وأحياناً تتلف بعض المواد للعجز عن تصريفها خوفاً من أن تلحق عملية إيصالها إلى كلفة إضافية وتؤدي إلى خسارة المزارعين.
الفستق الحلبي، بات أيضاً من السلع التي تلاقي طلباً كثيفاً، وهذه المادة قابلة هي الأخرى للتصنيع وضمان معالجتها على نحو يمكّن من تصدير المادة المصنعة إلى الأسواق العالمية من دون الخشية على تلفها، ولكن من المعروف أن سورية التي اشتهرت بزراعة الفستق الحلبي، لا تزال تعتمد على البيع المباشر في لحظة الموسم، ونادراً ما يتم تصنيع هذه المادة، وحتى إذا تم تصنيع جزء منها لتلبية احتياجات الطلب، فقد كان هذا التصنيع محصوراً بالطلب الداخلي ولم يتم إنشاء بنية تصدير فاعلة توصل هذا المنتج الذي تمتلك فيه سورية ميزةً تنافسية إلى الأسواق الخارجية.
سورية تنتج زراعياً الكثير من الزراعات القابلة للتصنيع والتي يندرج بعضها في إطار التوابل، مثل الفليفلة والكمون واليانسون، ولكن غالبية هذه الزراعات تباع في الأسواق كمواد خام، وتعتمد على المبادرات الفردية، ولا يجري تصنيعها على نطاقٍ واسع، ومنتجات ما يصنع مكرسة فقط للسوق الداخلي، أما عملية التصدير للإفادة من هذه الميزة التي تمتلكها سورية، وتحفيز الطلب عليها فيتطلب سياسة رعاية وتوجيه ودعم من الدولة وهذا ما لم يحصل قبل الحرب، ومن الملح والضروري استدراكه بعد الحرب لأن الدولة السورية بحاجة ماسة لتعبئة كل إمكانياتها للتغلب على –الحرب –، والكلفة الباهظة التي خلفتها هذه الحرب.
لدى سورية زراعاتٌ أخرى قابلةٌ للتصنيع في إطار ما يعرف بالصناعات الكحولية، فسورية دولة منتجة على نطاق واسع للعنب، وهذا العنب قابل للتصنيع سواء كنبيذ أو عرق أو مشروبات أخرى. ويمكن لبناء صناعة نوعية في هذا المجال أن يساعد سورية على غزو الأسواق العالمية، إذ من المعروف أن دولاً كثيرة تعتمد على مثل هذه الصناعات، وشكلت هذه الصناعات قاطرة إنتاجها الصناعي مثل بعض الدول الأوروبية. تنتشر في بعض المناطق السورية زراعة التبغ، ومعروف أيضاً ان التبغ من الزراعات القابلة للتصنيع، ولكن لا يزال تصنيع هذه المادة في أدنى مستوى له ومحصور في السوق الداخلية، وغالباً يقتصر على صناعة بعض السجائر، بينما مثلاً من المعروف أن إيران تعتمد كثيراً في قطاع التصدير على تصدير بعض المنتجات وبأسعار مرتفعة، وبات للتنباك العجمي سمعة عالمية، وليس هناك ما يحول دون أن تحصل سورية على موقع في خارطة التنافس الدولي في إنتاج مواد مصنعة من التبغ، إذا توفرت الصناعات الجيدة، وحصلت على العناية والرعاية المطلوبة.
في مناطق واسعة من سورية تنتشر زراعة الشمندر، ومعروف أن الشمندر تصنع منه مادة السكر، وسورية حتى الآن لم تستطع تصنيع ما يكفي الطلب الداخلي، وتجربة بناء مصانع السكر، لم تكن تجربةً لامعة، وبالتالي مطلوب مراجعة هذه التجربة، والعمل على تطويرها، وبناء شبكة من المصانع قادرة على تلبية احتياجات السوق الداخلية والتوجه للأسواق الخارجية لتصدير فائض الإنتاج.