إعادة بناء سورية: الأولويات، مصادر التمويل، الآفاق (9) حميدي العبدالله
ثالثاً، يأتي في المرتبة الثالثة من حيث الأولويات القطاعات الإنتاجية، أي الزراعة والصناعة. وهذان القطاعان عملية إعادة إعمارهما عمليةٌ متلازمة لأن غالبية الصناعات السورية ترتكز إلى موادٍ أوليةٍ زراعيةٍ. معروفٌ أن المناخ في سورية والأنهر والسدود أتاحت الفرصة لانتشار زراعاتٍ متنوعة وغالبية هذه الزراعات قابلةٌ للتصنيع، مثل القطن، والقمح، والحبوب الأخرى، والخضار والفواكه، وغالبية المحافظات السورية تتوزع فيما بينها أنواع محددة من الإنتاج. مثلاً المحافظات الشرقية اشتهرت بزراعة القطن والحبوب، في حين بقية المحافظات الأخرى اشتهرت بزراعة الزيتون والخضار والفواكه, ولا يكاد نوعٌ من أنواع الخضار والفواكه والإنتاج الزراعي الآخر أن لا يكون موجوداً في سورية، ويمكن القول إن لكلّ بلدٍ في العالم ميّزته التنافسية، وسورية ميزتها التنافسية تكمن في تنوع إنتاجها الزراعيّ. لكن من المعروف أن مسرح الحرب الإرهابية التي شنّت على سورية دارت بشكل رئيسي في الأرياف حيث الحقول ومراكز الإنتاج الزراعي، وبسبب هذه الحروب التي استمرت فترة طويلة نسبياً لحق ضررٌ كبيرٌ بالبنية التحتية المرتبطة بالقطاع الزراعي، حيث تضررت السدود جزئياً، وتضررت أقنية الجر بشكل شبه كامل، وخسر المواطنون أساليبهم وأدواتهم للري الحديث، بل إن هجرة ملايين الأسر هرباً من ويلات الحرب عرّض الكثير من الزراعات, وتحديداً الزراعات المعمّرة, للإهمال وغياب الرعاية الدائمة, وعملية إعادة إصلاح ما خلّفته الحرب تحتاج إلى خططٍ مكثّفة وجهدٍ واستثماراتٍ ودرايةٍ هندسيةٍ ومعرفيةٍ، وكلّ ذلك يفوق قدرات المواطنين بمبادراتهم الفردية التي اعتادوا على اعتمادها كما كان يحدث في السابق.
في مطلق الأحوال عملية إعادة إعمار القطاعات الإنتاجية لا بد من أن تبدأ من قطاع الزراعة لتزويد القطاع الصناعي بالمواد الأولية، وإذا لم يحدث ذلك فإن أمام القطاع الصناعي واحداً من أمرين: الأمر الأول, إما استمرار التوقف، أو استيراد المواد الأولية من الخارج، وهذا يعني المزيد من نزف العملة الصعبة التي تحتاجها الدولة للإنفاق على أولويات أكثر أهمية، وارتفاع كلفة المنتوج الوطني بما يرتبه من ارتفاع للأسعار والتسبب بالتضخم، وأيضاً خسارة القدرة التنافسية في الأسواق الخارجية، وحتى في السوق الداخلية إذا لم تتوافر له الحماية، لكل هذه الأسباب فإن البدء بإعادة إعمار القطاع الزراعي، لتوفير الأمن الغذائي، وهو جهدٌ عملت عليه الدولة طيلة أكثر من أربعة عقود وحققت فيه النجاح الكبير، ولكن الحرب قضت على هذه النجاحات، ووقف عملية الاستيراد من الخارج لسد الاحتياجات والنقص الذي سببته الحرب، بما يترتب عليها من استهلاك لاحتياط البلاد من العملة الصعبة ومستوى أسعارٍ مرتفع.
إن إعادة إعمار القطاع الزراعي تشملُ المسائلَ الحيوية الآتية:
1- توفير وتأهيل أقنية الري.
2- تأهيل التربة وتوفير الرعاية للزراعات المعمرة.
3- صيانة وتأهيل السدود.
4- شق أقنية ري جديدة.
5- وضع خطّةٍ حكوميةٍ لتقديم الدعم والقروض للقطاع الزراعي، لأن الحرب أنهكت المزارعين واستهلكت مدخراتهم، وبكل تأكيد هم عاجزون عن النهوض بالقطاع الزراعي والعودة إلى ما كانت عليه الحال قبل الحرب بقدرتهم الذاتية التي باتت مدعومة، إلا بالنسبة لعدد قليل منهم.
6- توجيه عملية إعادة إعمار القطاع الزراعي ووضع خطط توجيهية من قبل الدولة تشدد على إيلاء أهميةٍ أكبر للزراعات القابلة للتصنيع، والتي تساعد على توفير الأمن الغذائي، وتسد حاجات البلاد للتوقف عن الاستيراد من الخارج.
7- تعميم أساليب الري الحديث، والتشدّد ببناء شبكات توفر هدر المياه، ومساعدة المزارعين على اقتناء هذه الشبكات وتوجيه الصناعة لإعطاء أولوية لإنتاج حاجات المزارعين من عناصر شبكة الري الحديث بأسعار أقل كلفة.
8- شق الطرق لنقل المنتجات الزراعية بسهولة إلى مراكز التصريف، لأن ثمة مناطق يشكو مزارعوها من غياب الطرق التي تسهل عملية نقل الإنتاج وترفع من الكلفة.
9- التوجيه ببناء مصانع لتصنيع الإنتاج الزراعي من قبل القطاعين العام والخاص في المناطق الزراعية تبعاً لاختصاص كل منطقة بإنتاج محدّد، وتقديم إغراءات وتسهيلات للقطاع الخاص لإقامة المصانع حيث يجب أن تكون قرب حقول الإنتاج الزراعي المراد تصنيعه.
10- تسهيل تصدير بعض المنتجات الزراعية التي تفيض عن حاجات عملية التصنيع في ذروة المواسم، للإبقاء على أسعار مجزية تشجع المزارعين على التوسّع بالأعمال الزراعية، واستصلاح المزيد من الأراضي، لأن تدني أسعار المنتجات الزراعية، ولاسيما في لحظة ذروة المواسم، تقود إلى هجرة العمل في القطاع الزراعي، بما يترتب على هذه الظاهرة من بوار الأراضي، واختلال في الميزان التجاري الزراعي، وتأثير سلبي على الأمن الغذائي.
11- تشجيع المزارعين على تشكيل تعاونيات إنتاجية وتسويقية زراعية وتقديم حوافر للسير في هذا الطريق.
12- استحداث مؤسسة للمعارض الزراعية، وظيفتها تحفيز عمليات التسويق داخلياً وخارجياً.
13- توفير الأسمدة والأدوية الجيّدة بأسعارٍ مقبولة لخفض كلفة المدخلات الزراعية والحصول على مواسم غزيرة الإنتاج.
14- إنشاء برادات ومراكز تخزين لبيع السلع الزراعية، وإعادة ترميم صوامع الحبوب، وتعزيز مخزون سورية من هذا الإنتاج الحيوي للتعويض عن خسائر الحرب.
15- تسهيل عودة المؤسسات الدولية التي كانت تعنى بتأصيل السلالات الزراعية مثل مؤسسة «الإيكاردا» وغيرها من المؤسسات الأخرى التي تساهم بنقل وتوطين بعض الخبرات في المجال الزراعي.
16- إنشاء وتكثيف المختبرات التي تساهم بتأصيل النباتات الزراعية ومكافحة الأمراض المختلفة التي عادة تلحق الضرر بالمواسم الزراعية ولا قدرة للمزارعين بقدراتهم ومبادراتهم الذاتية على مواجهة مثل هذه الأخطار.
طبعاً هذه هي أهم عناصر عملية إعمار القطاع الزراعي، وبسبب الحرب وما ترتب عليها من مصاعب فإن تنفيذ برنامج إعادة إعمار القطاع الزراعي هو الآخر سوف يخضع لمنطق الأولويات وقد لا يكون من السهل تنفيذه دفعة واحدة وفي آن واحد.