إعادة بناء سورية: الأولويات، مصادر التمويل، الآفاق (8) حميدي العبدالله
ثانياً، قطاع النفط والغاز يحتل أولوية وربما أولوية موازية لإعادة إعمار البنية التحتية، بل من المفيد أن يسبقها لأسباب تتعلق بالبعد الاقتصادي.
النفط والغاز والثروات المعدنية الأخرى مثل الفوسفات ستلعب الدور الرئيس في عملية إعادة البناء والإعمار لأن الدولة السورية وخزينة الدولة بعد كل سنين الحرب الطويلة التي شنت على سورية، واستهدف الاقتصاد فيها بالدرجة الأولى لأسباب ليست خافية على أحد وكان من بين هذه الأسباب حرمان الدولة السورية من مصادر تمويل الجهد العسكري والانفاق على الخدمات الأساسية التي كانت في أساس العلاقة الجيدة بين الدولة والشعب السوري لما قدمته وتقدمه الدولة السورية من تقديمات. لذلك فإن إعادة إعمار قطاع الغاز والنفط والمعادن الأخرى من شأنه أن يغذي خزينة الدولة بما يمكنها أولاً من مواصلة الانفاق على المجهود العسكري في مرحلة حساسة ودقيقة تقتضي مواجهة جيوش أجنبية تنتهك سيادة سورية وتحتل جزءاً من أراضيها، وسعي دؤوب من هذه الجهات لزعزعة الاستقرار وعودة الحياة الطبيعية إلى البلاد. لهذا يمكن القول إن إعادة إعمار قطاع النفط والغاز والمعادن الأخرى هو أيسر السبل لتغذية موازنة الدولة للانفاق على المجهود العسكري وعلى تحسين مستوى معيشة المواطنين، لأن القطاعات الأخرى مثل الصناعة والزراعة هي ملك القطاع الخاص، ولا تستطيع الدولة أن تحصل دعم للخزينة أكثر من الضريبة على الأرباح، وحتى هذه الضريبة ستكون بمعدلات أدنى من الظروف العادية لأن ثمة حاجة لتشجيع هذين القطاعين الحيويين للنهوض من جديد بعدما دفعا ثمناً باهظاً في الحرب المدمرة التي استهدفت بشكل متعمد الصناعة والزراعة لأنها كانت الركائز الأقوى لدعم الاقتصاد السوري.
كما أن التركيز على أولوية إعادة بناء قطاع النفط والغاز والمعادن أمر مهم لحصول الدولة السورية على العملة الصعبة التي شحت بسبب ظروف الحرب وتراجع مصادر تمويل خزينة الدولة بالعملة الصعبة، ويمكن أن تقود عملية إعادة الإعمار إلى تعزيز خزينة الدولة بالعملات الصعبة من خلال، أولاً، توقف عملية استيراد مشتقات الطاقة من الخارج التي كانت تتطلب عملية صرف مبالغ هائلة من العملة الصعبة، وثانياً عبر تصدير جزء من النفط وبعض المعادن الأخرى مثل الفوسفات وغيره والحصول على عملية صعبة لإعادة بناء وتدعيم احتياطي الدولة من هذه العملات.
أيضاً تأتي أهمية إيلاء قطاع الطاقة الأولوية في عملية إعادة الإعمار من ضرورة وأهمية عمل الدولة لتوفير مستلزمات المواطنين من هذه المشتقات، سواء للاستهلاك أو لإدارة عجلة العمل في القطاعين الصناعي والزراعي. إذ من المعروف أن الصناعة والزراعة تحتاج إلى الوقود والوقود يأتي من المشتقات النفطية، وبالتالي إما أن توفر الدولة هذه المستلزمات من خلال الاستيراد، وهذا يعني هدر للعملات الصعبة، وهي بالأصل باتت شحيحة بالنسبة للدولة السورية، أو بإعادة إعمار وبناء هذا القطاع، وهذا يعني لا يمكن لقطاعي الزراعة والصناعة وهما أساس الاقتصاد الوطني الانطلاق في إعادة الإعمار من دون إعادة بناء وتفعيل قطاع الطاقة والعودة إلى ما كان عليه قبل الحرب بل أقوى وأنشط، لأن عملية إعادة الإعمار تتطلب توفير مستلزمات أوسع مما كان قبل الحرب، ولهذا يرتدي من هذه الناحية الاقتصادية قطاع الطاقة أهمية استثنائية في عملية إعادة الإعمار كونه الممر الضروري لانطلاق هذه العملية في مجالات أخرى، حتى وإن ارتدت هذه المجالات أولوية متقدمة من حيث الترتيب. مثلاً قطاع الكهرباء جزء من البنية التحتية، وهو يرتدي أولوية متقدمة في عملية إعادة الإعمار، ولكن تشغيل محطات الكهرباء تحتاج إلى الوقود، سواء الفيول أو الغاز، وهذين المصدرين هما من مشتقات الطاقة، ولهذا يمكن التأكيد على الاستنتاج الذي يقول بضرورة أن يكون بناء وإعمار قطاع الطاقة متقدماً على غيره، بما في ذلك البنية التحتية، حتى وإن سارت الأولويات في المجالين بشكل متزامن، بسبب العجز عن الفصل بينهما وتلازم عملية إعادة الإعمار في هذين القطاعين اللذين يعتبران جزءاً من البنية التحتية.
كما من المعروف أن الفوسفات يستخدم في صناعة الأسمدة، وبالتالي فإن التركيز على إعادة إعمار هذا القطاع يساعد من جهة على تغذية خزينة الدولة بالعملات الصعبة من خلال التصدير، كما أنه يساعد على إعادة تشغيل مصانع الأسمدة السورية، وهذا بدوره يقود إلى تعزيز عمل القطاع الصناعي، من خلال تشغيل معامل الأسمدة، وحتى بناء معامل جديدة لتوفير احتياجات البلاد بشكل كامل والاستغناء عن الاستيراد من الخارج التي تبدد جزء من احتياط الدولة من العملة الصعبة، كما أنه يساعد على تطوير القطاع الزراعي عبر توفير احتياجات المزارعين من الأسمدة، ومعروف أن لدى سورية احتياطات كبيرة ومخزون ضخم من الفوسفات الخام في مناجمه المعروفة، ويمكن التوسع في عملية التنقيب لاكتشاف مناجم جديدة.
إذن الاهتمام بقطاع النفط والغاز ومصادر الطاقة الأخرى، والمعادن لاسيما الفوسفات، يجب أن يحتل مرتبة متقدمة في أولويات الدولة في عملية إعادة الإعمار، ولا يجب أن تقتصر العملية فقط على العودة إلى ما كان عليه حال هذا القطاع قبل الحرب، لأن إنتاج هذا القطاع إذا ظل عند مستوى ما كان عليه قبل الحرب لن يلبي احتياجات عملية إعادة البناء والإعمار، وستضطر الدولة إلى الاستيراد من الخارج، وسيبدد ذلك ما لدى الدولة السورية من رصيد من العملات الأجنبية هي في أمس الحاجة إليه للانفاق في مجالات أكثر أهمية وإلحاحاً.
عملية إعادة إعمار واسعة بحجم ما حل في سورية من دمار وخراب ناجم عن ثمان سنوات من الحرب التي دمرت كل شيء، تتطلب قدرات ومصادر تمويل كبيرة، وقطاع الطاقة والمعادن هو القطاع المؤهل أكثر من غيره من قطاعات الاقتصاد السوري للقيام بدوره على هذا الصعيد، ولهذا لا يمكن الاكتفاء بالوصول إلى ما كان عليه الحال قبل الحرب، بل العمل أولاً، على إعادة إعمار المرافق التي تضررت بالحرب، وثانياً البحث والتنقيب عن مناجم وحقول غاز ونفط جديدة، وثالثاً، استثمار هذه الحقول والمناجم لتوفير متطلبات تمويل عملية إعادة الإعمار، فعملية إعادة إعمار هذا القطاع في جزء منها هي واحد من مصادر تمويل هذه العملية.