واشنطن وأنقرة: هل يقود التوتر إلى الافتراق؟ د.منذر سليمان
“التوترات التي حدثت .. أظهرت مدى قدرة ضغط كل طرف على الأخر دون قطع العلاقات.” تلك كانت خلاصة استعراض اتلانتيك كاونسيل لما لحق العلاقات الثنائية من تصدع بين أنقرة وواشنطن خاصة منذ محاولة الإنقلاب 15 آب/أغسطس 2016 .
تداعيات المحاولة الانقلابية شكلت مفصلاً هامة للأزمة بينهما، وما زالت تتخذ أشكالاً وقضايا عدة. أنقرة أرسلت أكثر من رسالة لواشنطن تهدد باغلاقها قاعدة “انجرليك” الجوية على أراضيها؛ وكانت صدمة واشنطن في تصريحات المرشح الرئاسي عن حزب الشعب الجمهوري، محرم إينجه، وهو أكثر ميلاً وتأييداً لواشنطن من حزب العدالة والتنمية الحاكم، مهدداً بإغلاق القاعدة مع نهاية العام الجاري، على خلفية عدم امتثال واشنطن لتسليم المقيم على أراضيها، فتح الله غولن، للحكومة التركية (حزيران 2018).
المطالب المعلنة من الطرفين لبعضهما البعض تتلخص بالتالي: واشنطن تطالب أنقرة بتخفيف حدة الخطاب المعادي للولايات المتحدة، وتوقف حزب العدالة والتنمية عن التلميح بتورط الحكومة الأميركية في محاولة الأنقلاب (تموز/ يوليو 2017)، وتهدئة التوترات مع الدول الأوربية – على خلفية أزمة اللاجئين السوريين ومسؤولية الطرفين، ومؤخراً أضافت واشنطن أنها تطمح لمبادرة تركية تحدد خارطة طريق جدية لاستئناف المفاوضات مع حزب العمال التركي.
المطالب التركية عبر عنها حديثاً وزير خارجيتها مولود جاويش اوغلو قائلاً “نحن نحاول إقامة علاقات جيدة مع الولايات المتحدة الأميركية. ولتحقيق ذلك وتطبيع العلاقات، يتعين على الولايات المتحدة اتخاذ خطوات جدية في المسائل العالقة. وعندما يتعلق الأمر بهذه المسائل، يطالب شعبنا بإغلاق قاعدة “انجرليك” إذا أبت واشنطن التعاون معنا.” بالإضافة لطلب تركيا فك تحالف واشنطن مع الكرد في سوريا المنضوين تحت لواء “قوات سوريا الديموقراطية” وحزب العمال أيضاً. زد على ذلك مساومة واشنطن لأنقرة لدفعها التخلي عن المضي قدماً في إتمام صفقة السلاح الروسي، منظومة إس-400 للدفاعات الجوية.
يما يخص جدل إغلاق قاعدة “انجرليك” من عدمه، يرجح أن تركيا أضحت “على يقين بأن تهديدها بالإغلاق يمثل أداة ضغط سياسية قوية، وبخلاف ذلك لكانت أقدمت على إغلاقها منذ زمن.”
أضافت واشنطن لقائمة مطالبها “ابتزاز” تركيا بإعاقة تسليمها صفقة أبرمتها لشراء المقاتلات الأميركية من الجيل الخامس، أف-35. وصدرت تصريحات متتالية من داخل الكونغرس الأميركي، نيسان/ابريل 2018، تهدد تركيا بإطالة مدة التسليم على خلفية اعتراضه اعتقال السلطات التركية للقس الأميركي، آندرو برونسون، المتهم بنسج علاقات وثيقة مع فتح الله غولن.
يشار إلى أن عقد شراء المقاتلات الأميركية وقع في أيلول/سبتمبر 2017؛ وهددت تركيا من جانبها بأنها ستدرس شراء مقاتلات روسية من طراز سوخوي-57 بدلاً عن المقاتلات الأميركية.
كما أقدمت الإدارة الأميركية، قبل بضعة أيام، فرض عقوبات مالية على وزيرين في الحكومة التركية في سياق تصعيد الاجراءات بينهما؛ وقيام الكونغرس بمجلسيه قبل ذلك بأيام معدودة بإقرار عدد من الخطوات لمعاقبة تركيا ضمّنها في ميزانية “قانون تفويض الدفاع الوطني لعام 2019،” معتبراً تركيا انها “من أسوأ الأصدقاء.”
جدير بالذكر أن واشنطن وأنقرة تبذلان جهودا من خلف الكواليس لتذليل العقبات والتوصل لتفاهم أفضل بينهما، وعممت الأولى أنها ستزيد من التعاون الاستخباراتي مع تركيا “لمساعدتها في استهداف حزب العمال الكردستاني.” وفي الوقت عينه، نسجت واشنطن علاقات وثيقة مع الحزب المذكور وقوى كردية أخرى في الشمال السوري مما أغضب أنقرة بالزعم أن خطوتها من شأنها “تقويض خطة الحرب الأميركية في سوريا.”
في سياق التصعيد المتبادل، ترددت أنباء من داخل البنتاغون بأن القيادة العسكرية الأميركية “نقلت ترسانتها من القنابل النووية في قاعدة إنجرليك” إلى خارج الأراضي التركية، مما يقوض الأسس العسكرية التي بنيت عليها علاقة “التحالف” بينهما المستندة إلى فرضية مساندة الولايات المتحدة لتركيا إن تعرضت لهجوم من قبل روسيا – والإقرار بأن احتمالات تلك الفرضية تتضاءل هذه الأيام. وتؤشر تلك الخطوة “الاستراتيجية” على أن الولايات المتحدة قد لا ترغب في الوفاء بالتزاماتها نحو تركيا وفق بنود معاهدة حلف الأطلسي.
الحرب الاقتصادية على تركيا
التدني السريع لقيمة العملة التركية تصدر التغطية الإعلامية الأميركية في الآونة الأخيرة، والرئيس التركي رجب طيب اردوغان يحافظ على خطابه بتماسك الاقتصاد التركي وزيادة الانتاج والنمو المضطرد، ملقياً باللوم على اسباب خارجية وسياسية خاصة من “شريحة مصالح الفائدة المصرفية، ووكالات التصنيف المالية، ومضاربو العملة.”
حركة السوق تحمّل اردوغان شخصياً مسؤولية التردي الاقتصادي بإعلانه “نية التدخل” في عمل المصرف المركزي بعد إعادة انتخابه. وحذرت الشركة المصرفية الأميركية الكبرى، غولدمان ساكس، من مواجهة المصارف التركية مصاعب من استشراء الأزمة المالية (تدني سعر الصرف) إن لم تتخذ إجراءات وتدابير سريعة للحيلولة دون ذلك.
التمهيد الأميركي للحرب الاقتصادية على تركيا جاء على خلفية سحب تركيا احتياطيها من الذهب والعملات الصعبة من البنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، 2016-2017، وتم تناولها أعلاميا بشكل واسع في نيسان/ابريل من العام الجاري.
سحب الاحتياط من المصارف الأميركية جاء “استجابة لدعوة الرئيس التركي رجب طيب اردوغان للتخلص من ضغط سعر العملات واستخدام الذهب ضد الدولار،” وسحبت تركيا سنداتها المالية من الخزينة الأميركية “مما يعني أن أنقرة صفّرت حساباتها في أميركا،” وفق المحلل الاقتصادي التركي مصطفى سونماز.
القرار التركي لاستعادة الذهب كان ثمرة قلق انقرة وخشيتها من “مصادرة السلطات الأميركية احتياطيها من الذهب في حال فرضت عليها عقوبات،” بيد أن تركيا لم تكن الوحيدة التي سحبت أرصدتها، فقد استعادت ألمانيا نحو 374 طناً من الذهب من فرنسا، بين أعوام 2013 – 2017؛ ونحو 300 طن من الولايات المتحدة، وفق بيانات البنك المركزي الألماني.
تحتل تركيا المرتبة العاشرة عالمياً بحجم احتياطيها من الذهب، 565 طناً، وفق أحدث بيانات “مجلس الذهب العالمي.” اما المرتبة الأولى فهي للولايات المتحدة، 8،133.00 طناً. السعودية في المرتبة الرابعة عشر، 323 طناً؛ ولبنان في المرتبة السابعة عشر، 287 طناً.
حجم أرصدة الذهب التركية في المصارف الأميركية بلغ 220 طناً تمت استعادتها لتركيا بين 2016-2017، منها سحب نحو 29 طناً من الذهب عام 2017 لصالح البنك المركزي التركي الذي “أعاد توجيه جزء كبير من الذهب المسحوب من المصارف الأميركية إلى بنك إنجلترا وبنك التسويات الدولية،” وفق التقرير السنوي للبنك المركزي التركي على موقعه الرسمي.
يشار إلى أن دولاً اوروبية عدة حولت احتياطياتها من الذهب إلى الولايات المتحدة خلال الحرب العالمية الثانية؛ ومنها تركيا التي “وضعت جزءاً من احتياطيها من الذهب في نيويورك.”
اتسعت دائرة الاجراءات والاجراءات المضادة بين أنقرة وواشنطن، بإعلان الاولى فرض رسوم جمركية على المنتجات الأميركية بمعدل يوازي الرسوم التي فرضتها الولايات المتحدة على المنتجات التركية – خاصة الصلب والالومنيوم.
وفي أثناء إعداد هذا التقرير بين أيديكم أعلن البيت الآبيض عن مضاعفة الرسوم الجمركية على المنتجات التركية إمعاناً في عقابها. تعتبر تركيا ثاني أكبر مورّد للألمنيوم لروسيا، مما أسهم في ارتفاع معدلات الاتجار بين البلدين، لا سيما وأن تركيا تعتبر اكبر مستورد للمنتجات الروسية.
الاجراءات الأميركية المتعاقبة ضد تركيا تأتي بالتزامن مع رفض أنقرة الامتثال لتطبيق العقوبات الأميركية على إيران، إذ يعتبرها الرئيس التركي اردوغان “شريكاً استراتيجياً” لبلاده.
آفاق المستقبل
التوجس الأميركي من استدارة الرئيس التركي شرقاً تشاطره به دول حلف الناتو، فضلاً عن عدم رضى الطرفين من نزعة اردوغان للتفرد بالسلطة وميله للاستبداد، وكذلك لهروب عدد من ضباط القوات المسلحة التركية وطلبهم اللجوء السياسي في اوروبا نظراً لعدم يقينهم بالسلامة الشخصية في عهد اردوغان.كما أن علاقات تركيا مع اليونان تشهد تردياً مستمراً وتحرشات القوات الجوية التركية واختراقها الأجواء اليونانية أضحت ممارسة شبه ثابتة؛ يضاف لذلك تباين الرؤى بين واشنطن وأنقرة فيما يخص التعامل مع الملف الكردي و”التحالف” المرحلي بين القوات الأميركية والمسلحين الأكراد.
مواقف الكونغرس والإدارة الأميركية تتسم بالتشدد حيال تركيا لاعتقادهم أن تقاربها المؤقت مع روسيا وإيران يأتي على حساب التضحية بعلاقتها مع حلف الناتو، وترتفع الأصوات المطالبة “بإعادة النظر” في العلاقة الثنائية بين البلدين، مما يؤثر مباشرة على صفقة المقاتلات الأميركية الحديثة، إف-35، وتجميد البت بها على المدى القريب.
استعراض لوحة العلاقات الثنائية وتنامي معدلات التردي بين أنقرة وواشنطن لا يبشر إلا بتفاقم الخلافات بينهما، في المدى المنظور. بيد ان العلاقة الاستراتيجية بين البلدين لن تتأثر لطبيعة حاجة البلدين لبعضهما البعض، وحاجة واشنطن أكثر لاستثمار دور ونفوذ تركيا في الإقليم ليس لكبح جماح تيارات الإسلام السياسي فحسب، بل لأن تركيا تعتبر صمام الأمان للمصالح الحيوية للغرب في المنطقة.
وعند النظر إلى دورها في إشعال وتفعيل الصراع في سوريا، واستقطابها لأعداد المسلحين، تبرز حاجة ورغبة واشنطن لاستخدام تركيا كمخلب قط في صراعها مع الصين تحديداً، باستغلال علاقتها الوثيقة في تبني ورعاية “الحزب الاسلامي التركستاني،” وعماده مسلحون من الانفصاليين الإيغور – في الصين.