حلف الناتو في عهد ترامب: غموض الجدوى ومبرر لابتزاز اوروبا د.منذر سليمان
تصنّع الرئيس الأميركي دونالد ترامب الغضب عشية لقائه مع رؤساء الدول الأعضاء في حلف الناتو ببروكسيل، طالباً من المانيا الوفاء بالدفع نقدا على الفور نسبة تعادل 2% من انتاجها السنوي، علاوة على نسبة مماثلة تم اقرارها سابقاً لتصبح نسبة اسهام الدول الاوروبية 4% من مجموع ناتجها الوطني. دول الحلف الأخرى، بريطانيا وفرنسا وايطاليا، امتعضت ووعدت بالموافقة.
ما تنفقه الولايات المتحدة على شؤون التسليح بلغ 686 مليار دولار، بما يعادل 3.6% من اجمالي ناتجها السنوي، لعام 2017، وفق أحدث البيانات الصادرة عن البنتاغون؛ وتطالب واشنطن الدول الاوروبية المساهمة بما يتجاوز نسبة مساهمتها عينها، تحت ذريعة الدفاع عن اوروبا من خطر هجوم روسي. وكرر الرئيس ترامب مطلبه أمام قمة الحلف بالقول أنه يتعين على الدول الأعضاء ليس الوفاء وتحمل الكلفة العسكرية بنسبة 2% فحسب، بل زيادتها إلى الضعف، 4%.
من نافل القول أن ترامب، ومنذ تسلمه مهامه الرئاسية، برع في “ابتزاز” حلفاء واشنطن التقليديين، سياسياً ومالياً: دول الخليج، كوريا الجنوبية، واليابان. وأظهرت اوروبا بعض التململ وعدم الرضى عن مطالب ترامب “الممثل التجاري لصناعات الأسلحة،” وفق توصيف مسؤولين اوروبين.
ميزانية الدفاع الألمانية بلغت 37 مليار يورو، ما يعادل 1,2% من اجمالي الناتج الوطني، لعام 2017؛ و38.5 مليار يورو للعام الجاري؛ 41.2 مليار يورو لعام 2019. وتعهدت ألمانيا بزيادة انفاقاتها العسكرية لتبلغ 42،5 مليار يورو لعام 2021.
لم يخفِ ترامب مشاعر عدائه للاتحاد الاوروبي ولحلف الناتو على السواء، وعمل على التدخل المباشر بتوازنات الاتحاد بإرساله مستشاره السابق ستيف بانون، أيار 2018، إلى أيطاليا لدعم رئيس وزرائها الجديد، جوزيبي كونتي، في حملته الانتخابية نظراً لمناهضته توجهات النظام الراهن؛ موجهاً له دعوة رسمية لزيارة البيت الأبيض. الثلاثي الاوروبي الأخر، بريطانيا وفرنسا والمانيا، يدرك حجم المتاعب التي سيتسبب بها (كونتي) وسعيه لتصدع الاتحاد من الداخل.
بانون وترامب طالبا بحل الاتحاد الاوروبي علناً، وكان أحدث الدعوات تأييد ترامب لاستقالة وزيرين بريطانيين مؤخراً على خلفية تباطؤ رئيسة الوزراء تيريرزا ماي في سبل الخروج من الاتحاد الاوروبي، كما ادعيا.
أمن اوروبا
عودة روسيا إلى الساحة الدولية بقوة حفز “بعض” القادة الاوروبيين لعقد شراكة عمل وتبادل تجاري معها، لا سيما في قطاع الطاقة. بيد أن واشنطن لم تحرص على اخفاء توجيه “تعليماتها” لحلفائها الاوروبيين بالتخلي عن مصادقة موسكو؛ ولا زال الجدال مستتراً في معظم الأحيان.
واشنطن لا تألو جهداً إلا وتذكّر الاوروبيين بديمومة “الخطر القادم من الشرق،” وأن عليهم الامتثال والاصطفاف وراء السياسة الأميركية – كما شهدنا في الآونة الأخيرة بخصوص حادثة التسمم في بريطانيا.
أما الاوروبيون فلهم موقف متباين: الموقف الشعبي عبر عنه الجمهور الألماني حديثاً بإطلاقه صيحات “أيها اليانكي عُد إلى بلادك،” حسبما ورد في تقرير لوكالة الأنباء الألمانية.
وأضافت التقارير أن نتائج استطلاع بين المواطنين الألمان كشف عن تأييد الأغلبية الساحقة لخروج القوات الأميركية من بلادهم، ويبلغ تعدادها 35،000 عسكري.
المواقف الرسمية حافظت على مواكبة الطرح الأميركي خاصة في لقاء وزراء دفاع دول الاتحاد الاوروبي، 7 حزيران 2018، الذي أسفر عن تبني قرار بالاجماع “لتعزيز التوجهات في عمل مضاد لروسيا؛ وتشكيل قيادة عسكرية مشتركة للأطلسي (في مدينة نورفولك بولاية فرجينيا الأميركية) في التصدي للغواصات الروسية التي تهدد منظومة الاتصالات بين اوروبا والولايات المتحدة؛ وانشاء مركز قيادة جديد للشؤون اللوجستية في مدينة أولم بألمانيا لتسريع نقل القوات عبر اوروبا في أي صراع قد ينشب مسقبلاً.”
وعزز التشكيك بقدرات اوروبا الدفاعية جملة مساهمات سياسية وفكرية في أميركا، منها اسبوعية ناشيونال إنترست، 9 تموز الجاري، بالجزم أن “هيكلية حلف الناتو القتالية في الوقت الراهن .. ستكون عاجزة عن الصمود أمام غزو روسي للبلدان المجاورة في لاتفيا وليتوانيا واستونيا.”
وواكبها معهد راند، المقرب من المؤسسة العسكرية والاستخباراتية مستنتجاً “.. الوضعية الراهنة تحول دون قيام حلف الناتو بالدفاع الناجز عن أراضي معظم أعضائه” القريبين جغرافياً من روسيا. ورأى المعهد أن تلك المهمة تستدعي العودة لاستراتيجية “شبيهة بعصر الحرب الباردة، وعقيدة الثمانينيات بخوض معارك جوية وبرية (وتخصيص) 7 فرق عسكرية على الأقل” للتصدي لغزو روسي قد ينجز مهمته في “احتلال دول البلطيق بسرعة بيّنة لا تتعدى 60 ساعة.”
واستبق وزراء دفاع الحلف لقاء القمة بين الرئيسين الأميركي والروسي بالإعلان عن اتفاقية جديدة يسري مفعولها لغاية عام 2020، قوامها حشد 30 كتيبة آلية؛ 30 سرباً جوياً؛ و 30 سفينة حربية في اوروبا قابلة للإنتشار في 30 يوماً أو أقل” لمواجهة روسيا.
ولم يشأ الرئيس ترامب أن يترك مجالاً للمناورة لدى الاوروبيين إذ توجه في حفل شعبي حضره في ولاية مونتانا، 6 تموز الجاري، موجهاً خطابه للمستشارة الألمانية قائلاً “.. تدركين أنغيلا، انني لا أستطيع توفير ضمانات، لكننا نوفر الحماية لكم.” وفي تصريح مشابه بعد أيام معدودة زعم ترامب أن “ألمانيا رهينة لروسيا بشكل مطلق.”
“الخطر الروسي“
ميزانية الدفاع الروسية، وفق البيانات الرسمية الغربية، تبلغ نحو 61 مليار دولارلعام 2017؛ أي “تمثل تخفيضاً بنسبة 17% عن الانفاق في العام السابق .. وتعادل نسبة 4.3% من ناتجها الوطني السنوي.” على الطرف المقابل، أقرت شبكة سي أن أن للتلفزة، 2 أيار 2018، أنه في الوقت الذي تخفض فيه موسكو حجم انفاقها العسكري فإن “عددا من الدول المجاورة لها شهدت ارتفاعاً في نسبة انفاقاتها العسكرية .. وبلغت نسبة 12% من ميزانيات دول أواسط اوروبا لعام 2017.”
التهويل الأميركي بالخطر الروسي يدركه الاوروبيون بشكل عام. وعلق مستشار الحزب الأحمر في النرويج، اريك فولد، مؤخراً بالقول أن الرئيس ترامب “لا يتعدى كونه ممثلاً تجارياً لتسويق الصناعات العسكرية الأميركية، ويدفع باتجاه زيادة الاوروبيين ميزانياتهم العسكرية لشراء معدات أميركية بشكل خاص.”
وفي الشأن الاقتصادي وقطاع الطاقة بشكل خاص، شكل استيراد اوروبا الغاز الطبيعي من روسيا عاملاً اضافياً للهجوم الأميركي عليها كون الرئيس ترامب “ينطق بلسان الصناعات النفطية والغاز الطبيعي الأميركية في محاولة لإقناع الأوروبيين الإقلاع عن استيراد الغاز من روسيا – لا سيما خط الشمال: نورد ستريم – واستبداله بالغاز الأميركي.”
سخر الرئيس ترامب من رؤساء دول حلف الناتو منتقداً ألمانيا بقسوة قائلا “كيف يمكن للمرء المحافظة على اللحمة الجماعية بينما تستعد دولة للحصول على احتياجاتها من الطاقة من مصدر تسعى لطلب الحماية ضده .. (عملياً) لقد أسهمت في تعزيز ثروة روسيا.”
سياسياً، ومن وجهة نظر الاوروبيين غير الرسميين، يضيف فولد أن الولايات المتحدة بحاجة أكبر لاوروبا من حاجة الأخيرة لها، إذ أن “.. دول حلف الناتو تدعم مواقف الولايات المتحدة لتخطي قرارات مجلس الأمن الدولي والانخراط (معها) في مغامرات عسكرية خارج حدودها.”
كيف تنظر الولايات المتحدة لأوروبا المثقلة بأعبائها الداخلية والتي اضحت تعاني من “تناقص” طبيعي في مواردها البشرية.
أسبوعية فورين بوليسي، 10 تموز الجاري، اعتبرت أن اوربا اليوم لا تشبه اوروبا بالأمس إذ “أضحت غير قادرة على الدفاع عن نفسها.”
تجدر الإشارة أيضاً إلى أن تقليص عدد السكان، بشكل عام، مرده جملة عوامل داخلية ابرزها الأزمات الإقتصادية التي لا زالت تعصف بمعظم البلدان؛ وتضاعف “عدد النازحين من اوروبا الشرقية باتجاه الغرب منذ الأزمة المالية لعام 2008 .. فاقمها أعداد كبار السن، وتدني معدلات الولادة، والهجرة” إلى دول الأطراف.
وتضيف النشرة أن الفترة بين عامي 1989 ولغاية 2017، شهدت لاتفيا أكبر نسبة “نزيف بشري” بلغت 27% من مجموع سكان لاتفيا؛ ليتوانيا 23%؛ وبلغاريا 21%.
عسكرياً، يعتقد الأميركيون أن “اوروبا فشلت في توفير الحماية لذاتها على مدى 70 عاما؛” منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
مستقبل الحلف
الحلف “أصبح شيئاً من الماضي،” كما وصفه خطاب المرشح الرئاسي دونالد ترامب، ولم يحد عن ذلك إلا بمقدار إرضاء المصالح الكبرى الأميركية وسياسييها التقليديين، ووجد في ابتزازه آذاناً صاغية ستعود بالمنفعة المادية عليه.
أسلوب الخداع الذي يمارسه ترامب عبر عنه بصراحة في كتابه فن الصفقة، ولخصه بأنه للفوز بأقصى ما تريد ينبغي اغراء الطرف الآخر ومن ثم التحايل عليه Bait-and-switch.
يواجه الحلف جملة من التحديات المرتبطة بظروف تكوينه وما طرأ على الخارطة الدولية من متغيرات، أبرزها بروز تعدد القطبية؛ طبيعة العلاقة المتداخلة الآن بين هيكلية الحلف ومنظومة الاتحاد الاوروبي؛ تأثير خروج بريطانيا عليه؛ واستطرادا هويته المستقبلية في العصر الراهن.
في خلفية ذهن ترامب، فإن انسحاب ولو جزء من القوات الأميركية في اوروبا أمر وارد، ولو أنه يتعارض مع القادة العسكريين والنخب السياسية التقليدية. ويستخدم هذا التهديد اينما لزم الأمر لممارسة مزيد من الضغوط على دول الحلف ليس إلا. فهو ليس بوارد تنفيذ تعهده بالغاء الحلف، لا سيما وأن الأمر ينطوي على جملة من التعقيدات السياسية واللوجستية وموازين القوى الداخلية، فضلاً عن العامل الزمني.
طبيعة تشكيل التحالفات تحكمها ظروف تاريخية واصطفاف قوى تتشاطر الأهداف الكبرى، بالحد الأدنى. وعادة ما تتلاشى تلك التحالفات بانتهاء مهامها المعلنة، على أقل تعديل. بيد أن التلويح بذلك يبقى سوطاً مسلطاً على الاوروبيين، وتجديد مهام الحلف، التدخل في افغانستان وليبيا والعراق وسوريا، يشكل رسالة ردعية لروسيا، من وجهة نظر واشنطن؛ خاصة وأن دول اوروبا الشرقية المنضوية تحت لواء الحلف تلعب دوراً مؤيداً لبقائه وتحديث مهامه خدمة لأهدافها المعادية لروسيا.
وليس أدل على ذلك من تصريح حديث لرئيس بلغاريا، رومن راديف، “.. حلف الناتو ليس بورصة (مالية) يستطيع المرء فيها شراء الأمن .. لكن وعلى الطرف المقابل فإن الرئيس ترامب محق إذ ينبغي على كل دولة بناء قدراتها الفعالة بمفردها.”