الأوروبيون يريدون الانفصال عن أميركا جيمس كيرتشيك
صعد دونالد ترامب إلى الرئاسة متحديا المبادئ الأساسية لعلاقة أميركا مع أوروبا: أعلن حلف الناتو، أنه على واشنطن أن تلتزم امنيا مع أعضاء التحالف وتمنحهم “نصيبهم العادل” في مقابل الرغبات الصريحة لكل حكومة أوروبية.
احتفل ترامب بانفصال بريطانيا عن الاتحاد الاوروبي وراهن على احتمال تفكك الاتحاد. وفي حين سخر من المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في الحملة الانتخابية لعام 2016، لم يكن لديه سوى أشياء لطيفة ليقولها عن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، زعيم “التهديد الأمني الأساسي للقارة”. أما بالنسبة للقيم الليبرالية، فإن الولايات المتحدة لم تكترث لاحترام حقوق الإنسان، والصحافة الحرة، والتعددية الدينية والعرقية – ولكن لم يكن ترامب عدائياً تماماً.
خلال العام والنصف الماضي، اتخذ ترامب العديد من الخطوات تجاه الأوروبيين: انسحب من اتفاقية باريس بشأن المناخ، واعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل وهدد بفرض التعريفات على الألومنيوم والصلب.
لكن كان قرار الرئيس بالانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني السبب الرئيسي في توتر العلاقات بشكل ملحوظ، ما دفع الكثيرين إلى إعلان قطع العلاقة بين ضفتي الأطلنطي. وكتب جيمس تراوب في فورين بوليسي “ RIPالتحالف عبر الأطلنطي 1945-2018″. وعنونت ديرشبيغل “حان الوقت لأوروبا للانضمام إلى المقاومة”. وكتب رئيس الوزراء السويدي السابق كارل بيلدت في صحيفة واشنطن بوست: قرار ترامب “هجوم هائل” على أوروبا. وتساءل دونالد توسك، رئيس المجلس الأوروبي “هل الاصدقاء من هذا القبيل، يحتاجون إلى اعداء؟” في مقال رأي في صحيفة نيويورك تايمز بعنوان “أوروبا لا يجب أن تكون ممسحة ترامب،” وطرح مسؤولان سابقان في إدارة أوباما، فكرة قيام الحكومات الأوروبية باستدعاء سفرائها من واشنطن وطرد الدبلوماسيين الأميركيين من عواصمهم.
هذه العلاقة عبر الأطلسي غير مسؤولة وغير ناضجة. وبالرغم من أن ترامب جعل أميركا غير موثوق بها، فإن الولايات المتحدة وحلفاءها الأوروبيين لا يزالون يشاركونها نفس القيم والمصالح الأساسية. علاوة على ذلك، فإن مثل هذه التصريحات الكاسحة تتجاهل المدى الذي يدين فيه المشروع الأوروبي لوجود الولايات المتحدة، من حيث التضحية والوصاية.
يمكن أن يبدأ الأوروبيون في تفكيك التحالف عبر الأطلسي، لكنهم سيفعلون ذلك على حسابهم.
يتذمر الأوروبيون كما قال أحد الصحفيين الألمان، من أنه في البيت الأبيض هناك “مدمرة لديها مهمة الإبادة”، فهم لم يقدروا جيدا في المقام الأول آراء السياسة الخارجية غير التقليدية التي عبر عنها ترامب في حملته الانتخابية، فهي كانت مثيرة للقلق.
تحرك بعض الناخبين ضد ترامب كان بسبب فشل العديد من الحكومات الأوروبية أعضاء حلف الناتو في تخصيص 2 % من الناتج المحلي الإجمالي للدفاع الوطني. ما أثار حماسة الجمهور تجاه ترامب ايضا هي وجهات نظره المتشددة حول الهجرة، والوعود بمقاومة التغييرات التي أحدثتها العولمة والرغبة في الإخلال بالمعايير “الصحيحة سياسياً” لكلي الطرفين وفقا لما تقوله واشنطن.
قد ينظر المؤرخون المستقبليون إلى رئاسة ترامب على أنها كانت بمثابة نقطة تحول حاسمة وتراجعا في الدور القيادي العالمي لأمريكا. ولكن من السابق لأوانه أن نعلن شيئًا اوسع من ذلك، حيث أن العلاقة السياسية والاقتصادية والاستراتيجية والعسكرية بين اوروبا والولايات المتحدة التي دامت سبعة عقود ماتت فقط بسبب انتخاب رجل واحد.
في البداية، نشأ انطباع خاطئ حول العلاقات عبر الأطلسي وكان ببساطة خرافيا حتى جاء ترامب. منذ انهيار الاتحاد السوفييتي والتحول المقابل في أوروبا (كمركز للمواجهات الجيوسياسية)، وأميركا وحلفاؤها الأوروبيون يبتعدون عن بعضهم البعض.
في عهد الرئيس باراك أوباما، وبعد أشهر قليلة من توليه منصبه، أثارت حملة “إعادة التعيين” التي قام بها أوباما مع روسيا مجموعة من زعماء أوروبا (الوسطى والشرقية) البارزين – بما في ذلك الرؤساء البولنديين والتشيكيين السابقين ليخ فاونسا وفاكلاف هافيل على التوالي – لنشر رسالة مفتوحة تحذر من “حلف شمال الأطلسي اليوم”.
و”عادت روسيا كقوة تسعى إلى تحقيق أجندة القرن التاسع عشر بتكتيكات وأساليب القرن الحادي والعشرين”. وقد ثبتت مخاوفهم عندما عكست إدارة أوباما قرار سلفه بنشر أنظمة الدفاع الصاروخية. في كلا البلدين وفي وقت لاحق، بشكل واضح جدا ، “محور” تركيزه الاستراتيجي من أوروبا إلى آسيا.
لكن يجب على الأوروبيين أيضا أن يتحملوا اللوم في إضعاف العلاقات عبر الأطلسي. وقد أظهر استطلاع للرأي أجري في أعقاب ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في العام 2014 أن المزيد من الألمان يفضلون موقف الحياد أكثر من مساندة حلفائهم الغربيين.
أظهر استطلاع أجرته مؤسسة بيو في العام التالي ، أن الاغلبية في ألمانيا وإيطاليا وفرنسا تعارض الدفاع عن حليف لحلف شمال الأطلسي (الناتو) تم الاعتداء عليه من قبل روسيا – في حين أن تهديدات الرئيس الأميركي بفرض رسوم جمركية على الألومنيوم والصلب قد تؤدي إلى نتائج عكسية لتعزيز العلاقات عبر الأطلنطي، كذلك كان احتجاج برلين عام 2015، مع حشد يقدر بنحو 150 ألف شخص، ضد شراكة التجارة والاستثمار عبر المحيط الأطلسي، وهي اتفاقية تجارة حرة مقترحة بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
أما فيما يتعلق بانقلاب ترامب المفترض على العلاقات عبر الأطلنطي، فإن ترك الصفقة الإيرانية لا يشكل بالضرورة الكارثة الاكبر. فبدلاً من إيجاد طريقة للعمل مع إدارة أمريكية أكثر تشدداً لاستخدام نفوذها المشترك في إجبار طهران على وقف مغامراتها الإقليمية وطموحاتها النووية، يتحدث العديد من الأوروبيين كما لو أن واشنطن، وليست الدولة الإيرانية، هي التي تهدد السلام العالمي.
يخشى كريستيان هوفمان من دير شبيجل أن “ترامب قد يجبر أوروبا على الاختيار بين الولايات المتحدة وإيران”. ولكن كيف يكون هذا خيارًا صعبًا؟.
وطلب سفير الولايات المتحدة الذي تم تنصيبه حديثاً في ألمانيا ريك غرينيل أنه يجب على الشركات الألمانية ان تقلل من عملياتها في إيران: “في أسوأ الحالات، وكما يجادل المؤلف الألماني ماتياس كونتزل: “إن الفضيحة لا تتمثل في حقيقة أن السفير الأمريكي الجديد يحث بشدة الألمان على إنهاء علاقاتهم التجارية مع إيران. انما تكمن الفضيحة في حقيقة أن هذا الطلب لا يأتي من الحكومة الألمانية نفسها”. “إن خطاب الأوروبيين على مدى الأسبوع الماضي يوحي بأنهم يهتمون أكثر بالمحافظة على الصفقات التجارية المربحة مع إيران أكثر من اهتمامهم بتقييد النظام الاستبدادي.
وانطلق بعض الأوروبيين بهذه الوعود الغريبة حول مستقبلهم. “في هذه المرحلة” أعلن رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر الأسبوع الماضي في خطاب أمام البرلمان الفلمندي: “أوروبا انتعشت من جديد بفضل تحقيق تحسن اقتصادي وتلاحم أفضل بين قادتها. وقال يونكر امام النواب الاوروبيين في ستراسبورغ ان “أوروبا انتعشت مجددا. أصبح لدينا نافذة على فرصة لكنها لن تبقى مفتوحة الى الابد”، داعيا الى “بذل اقصى الجهود للاستفادة من هذه الديناميكية“.
واعلن يونكر عن “اطار” اوروبي حول ضبط الاستثمارات الاجنبية في الاتحاد الاوروبي من اجل حماية القطاعات الاستراتيجية، يستجيب للمخاوف من عمليات الاستحواذ الصينية خصوصا.
وقال يونكر “نقترح اليوم اطارا جديدا للاتحاد الاوروبي حول التدقيق في الاستثمارات او ما يسمى بـ”مسح الاستثمارات”. وأوضح “اذا كانت شركة أجنبية عامة تريد شراء مرفأ أوروبي استراتيجي او جزء من بنيتنا التحتية للطاقة (…) او واحدة من شركاتنا في قطاع الدفاع فلا يمكن ان يتم ذلك الا بشفافية، عبر الدراسة العميقة والنقاش”.
كثيرون يتصرفون كما لو أنهم لا يفعلون. “لقد أصبح العالم مكانًا أكثر تعقيدًا ولم تعد الولايات المتحدة شريكًا موثوقًا به ” هذا ما قاله كلاوس برينكبوم من مجلة دير شبيجل الشهر الماضي. “على هذا النحو، يجب علينا تحرير أنفسنا”. حقا؟ تقع أوروبا في مواجهة بقية العالم، وهي قارة متناقصة من كل النواحي (السكان، الناتج المحلي الإجمالي، الإنفاق العسكري)، وهي تشكل عمودًا مستقلاً في الشؤون الدولية – “قوة عظمى إنسانية” يمكن أن تتعامل مع الصين الصاعدة بطريقة أو بأخرى.
وقد أظهر استطلاع للرأي تم نشره الأسبوع الماضي أنه في حين أن 14٪ فقط من الألمان الذين شملهم الاستطلاع يعتبرون الولايات المتحدة “شريكا موثوقا به”، فإن 36٪ و 43٪ يرون روسيا والصين بهذه الطريقة شركاء موثوقين.
إن ما لم تفعله إدارة ترامب يقترب من إثبات الاعتقاد بأن الأنظمة في موسكو وبكين أكثر جدارة بالثقة من خلال المقارنة. ومع ذلك، فإن الخطاب الذي يطلقه ترامب يشجع الأوروبيين على مثل هذه الأوهام. لأنه لا يوجد “خطة ب” لأوروبا. إن السعي إلى التقارب مع روسيا، هو أمر غير قابل للتنفيذ، وكذلك الحال بالنسبة للصين، مع نموذجها الرأسمالي الاستبدادي للدولة والسلوك الاستعماري الجديد في آسيا، وهو طريق مسدود مماثل للأوروبيين المهتمين بتأييد النظام العالمي الليبرالي.
كان أحد المخاطر الرئيسية لرئاسة ترامب، وأحد الأسباب العديدة التي عارضتها، هو أن ترامب سيشجع القوى المعادية لأمريكا حول العالم، وخاصة في أوروبا على اتباع صورة نمطية سلبية يمسك بها الأوروبيون عن الأميركيين. والآن بعد أن أصبح رئيسًا، يتعين على كلا الجانبين أن يدركوا أن القيم والمصالح التي توحد أوروبا والولايات المتحدة ستبقى على قيد الحياة لدى المحتلين الحاليين للبيت الأبيض. خلاف ذلك، قد تصبح التأكيدات الثابتة، التي لا أساس لها وفاة العلاقة الأطلسية.
ترجمة: وكالة أخبار الشرق الجديد- ناديا حمدان