الاقتصاد السياسي للتوجه شرقاً (2)
العوامل الاقتصادية
حميدي العبدالله
نجاح أي مشروع، أو توجه، أو سياسات، يتوقف دائماً على توفر شروط ملائمة، وقوة دفع أو قاطرة لتحقيق هذا المشروع، أولاً اقتصادياً، وثانياً سياسياً، وثالثاً أرجحية العوامل الدافعة الإيجابية على العوامل النابذة والمعيقة السلبية.
أولاً، حول توفر الشروط الاقتصادية، ومدى قوة الدفع الذي تمثله بالنسبة للتوجه شرقاً:
واضح أن ثمة شروط ودوافع قوية على المستوى الاقتصادي هي التي تدفع باتجاه ولادة تكتلات خاصة في مناطق الشرق، ومن بين هذه الشروط: شرط أول، يكمن في حقيقة أن النمو الاقتصادي للدول الواقعة في الشرق، وخاصةً الدول الكبرى مثل الصين والهند وروسيا وإيران وباكستان وتركيا، مرهون بالحصول على فرصة متكافئة في الوصول إلى الأسواق العالمية، سواء من أجل تصدير البضائع والمنتجات من البلدان الواقعة في الشرق، أو حق الاستثمار والحصول على المزايا ذاتها التي يحصل عليها الغرب.
لكن من الواضح أن الغرب، ولاسيما الولايات المتحدة ترفض منح هذه الفرصة للدول الواقعة في الشرق، وثمة وقائع كثيرة تبرز عرقلة الولايات المتحدة الاستثمارات الصينية أو الهندية، وحتى عرقلة استثمارات دول حليفة للولايات المتحدة مثلما فعلت واشنطن عندما عرقلت تملك شركات إماراتية إدارة مرافئ بحرية في الولايات المتحدة، ومن الطبيعي أن تدافع الدول الواقعة في الشرق عن حقها في الحصول على فرص متكافئة في الأسواق الدولية، ولعل هذا هو أحد عوامل ولادة مجموعة البريكس التي تمثل الأسواق الناشئة على امتداد العالم، فهذا التكتل ولد في مواجهة إصرار الغرب على الاستئثار بالأسواق وعدم السماح للأسواق الناشئة بالحصول على حصة متكافئة خلافاً لما نصت عليه اتفاقات منظمة التجارة الدولية، كما أن ولادة «منظمة شنغهاي» يأتي في سياق الأسباب والدوافع ذاتها.
يتوفر شرط ثاني على المستوى الاقتصادي يشكل دافعاً لولادة تكتل دولي في منطقة الشرق ليذود عن مصالحه في مواجهة الغرب، ويشكل قوة دافعة لسياسة التوجه شرقاً ويمنح هذه السياسة واقعية كاملة، يتمثل هذا الشرط في أن النمو الاقتصادي السريع في دول الشرق، ولاسيما في الصين والهند مرتبط أشد الارتباط باستمرار تدفق مصادر الطاقة التي تحتاجها الآلة الصناعية العظيمة، ولكن الغرب يسعى للتحكم بمصادر الطاقة وتوظيفها كسلاح لإبقاء العلاقات غير المتكافئة بين الغرب والشرق، والحفاظ على علاقات التبعية التي كانت قائمة منذ حوالي أكثر من قرنين، ولكن دول الشرق في غالبيتها الساحقة تسعى للحصول على موارد الطاقة بشكل آمن، وهذا يقود إلى تصادمها مع السياسات الغربية، ويدفع دول الشرق للتعاون فيما بينها في مواجهة محاولات الغرب لإخضاعها، ويشكل هذا عاملاً آخر يدفع باتجاه تعزيز التكتل والتنسيق والتعاون بين دول الشرق، وتشكيل منظومات تعاون شبيهة بمنظومات التعاون التي تنظم علاقات دول الغرب فيما بينها.
الشرط الثالث الإيجابي الذي يشكل دافعاً مهماً لتكتل وتعاون دول الشرق، وتجعل سياسة التوجه شرقاً سياسة واقعية ومجدية، يتمثل في أن مصادر الطاقة تتوفر في بعض بلدان هذا الشرق مثل روسيا وإيران، وخطوط نقل الطاقة، سواء بين دول الشرق ذاتها، أو بينها وبين الدول الغربية تمر في بلدان الشرق، وهذا ما يفسر جزءاً كبيراً من الصراع الدائر في المنطقة والتنافس الشديد بين الدول الكبرى حول الظفر بالاستثمار في خطوط النقل لما يترتب على ذلك من عوامل جيوسياسة وجيواستراتيجية، إضافةً إلى العامل الاقتصادي. فمن يتحكم بخطوط نقل الطاقة يستطيع أن يفرض إرادته السياسية، ولهذا تسعى دول الشرق للتعاون فيما بينها وخلق قوة قادرة على حماية هذا الامتياز بما يعزز مصالحها واستقلالية قرارها السياسي.
شرط رابع يلعب دور القاطرة في ولادة التكتل الشرقي، ويرفع من جدية الرهان على التوجه شرقاً، يكمن هذا الشرط في حقيقة أن الدول المركزية في منطقة الشرق، مثل الصين والهند وروسيا وإيران وحتى باكستان وتركيا، هذه الدول جميعها تسعى للاستقلال الكامل ورفض سياسة الإملاء والتبعية التي تصر عليها الدول الغربية، ولاسيما الولايات المتحدة.
هذه الشروط الأربعة الرئيسية تجعل العامل الاقتصادي عاملاً دافعاً ومسرعاً لسياسة التكتل والتنسيق والتعاون بين دول الشرق، وولادة كتلة تشبه الكتلة الأطلسية.