المقاطعة خجلاً من الأوروبيين على الأقلّ: ناصر قنديل
–في خطوة أراد عبرها تظهير صورة غير نمطية قرّر وزير الداخلية السير بعكس توصية الجهات الرقابية في الأمن العام اللبناني التي أوصت وفقاً لالتزام لبنان بأحكام مكتب مقاطعة «إسرائيل»، بمنع عرض فيلم ستيفن سبيلبرغ «ذا بوست»، وبرّر الوزير قراره بكون الفيلم لا يروّج للتطبيع ولا يتحدّث أصلاً عن الصراع مع «إسرائيل»، بل يتصدّى لملفات الحرب الأميركية في فيتنام. ومبرّرات الوزير هنا هي فعلاً من نوع ذرّ الرماد في العيون لتسخيف منطلقات التوصية بالمنع وتصوير مَن يقف وراءها كجاهل أو غبي ينسب للفيلم ما ليس فيه. وكانت الشجاعة الأدبية تقتضي من الوزير القول إنه يعلم أنّ التوصية بالمنع ناتجة عن أحكام المقاطعة التي تطال المخرج ولا علاقة لها بمضمون الفيلم بل بسيرة المخرج النافرة في العداء للبنان والتضامن مع «إسرائيل»، ولكنه قرّر تعليق الالتزام بأحكام المقاطعة لأنه يراها بلا جدوى، أو حرماناً للوسط الثقافي من مواكبة الإبداع العالمي، أو ما يشاء من الأسباب، وإنْ وجد أنّ الأمر يستدعي قراراً أعلى من مستوى توقيع الوزير. وهذا هو واقع الحال، يكتب لمجلس الوزراء طالباً تعليق العمل بالتزام لبنان أحكام المقاطعة، وإلا ارتكب الوزير مخالفة دستورية، وهذا ما حصل، وروّج لأحد رموز الصهيونية المشمولين بأحكام المقاطعة. وهذا جرم جنائي يفترض أنّ مهمة معالي الوزير ملاحقة مرتكبيه .
–لا حاجة لإلقاء المواعظ حول معنى المقاطعة وجدواها، ومن حق أيّ لبناني أو عربي ساعة يشاء أن يبدأ نقاشاً من هذا النوع، وأن يكشف عدم قناعته بفعالية سلاح يظنّه بالياً ينتمي لثقافة لم تعد موجودة برأيه، ولغة خشبية تخطتها البشرية، لكن لا يحق لأيّ كان تعليق الأثر القانوني لأحكام المقاطعة من موقع مسؤوليته الإجرائية وزيراً أم مديراً إلا بسلوك الطرق القانونية، التي تبدأ بالتطبيق الحرفي للمقاطعة والتقدّم بمقترح معلل وفق الأصول للأسباب والمندرجات والمقترحات، هذا أولاً. أما ثانياً، ولأنّ الرائج هو ما يروّج له أصحاب القدرة، فهل فعلاً لغة المقاطعة لغة بالية، وهل هي لغة خشبية لا تنتمي لزمن راهن، والمعيار هو حكماً ما يقوله الغرب وما يقبله العقل الغربي، ولأنه العقل الوحيد الذي يمكن الاستناد إلى رجاحته، فلنحتكم إليه إذن.
–ماذا يسمّى في اللغة العلمية تحريم نشر المواد التي تصنّف تحت بند العداء للسامية، ويقرّر منع تداول مؤلفات ومنشورات أصحابها؟ وهل منع منشورات فيلسوف بمكانة روجيه غارودي بتهمة أنه يصيب العقيدة الصهيونية في بنيتها الثقافية، مقاطعة أم إلزام بالمقاطعة تشترك في تطبيقه حكومات الغرب جميعها، بلا خجل ولا حرج ولا أن يرفّ لها جفن، ومن بين مؤلفات غارودي الممنوعة بالمناسبة قصائد غزل؟ وفي المقابل هل وصل إلى مسامع بعض المعترضين على المقاطعة ما تقوم به جماعات أكاديمية أوروبية، خصوصاً بريطانية وجنوب أفريقية تحت عنوان فعل الضمير الإنساني، بأن تصرخ بوجه أكاديميين «إسرائيليين»، عبر المقاطعة، بلغة النزاهة العملية، كيف ترضون لأنفسكم أن تكونوا جزءاً من مؤسسة عنصرية، ومثلها نخجل نحن من أن نتهم باللاحضارية إذا قاطعنا منتجات المخرج ستيفن سبيلبرغ لنقول له، افحص ضميرك يا شريك القتلة، لن يغيّر لون وجهك وأنت تدفع مليون دولار لدعم قتل أطفالنا، في حرب تموز 2006، أن تكشف حقائق حرب فيتنام مدّعياً الحرص على الضمير الإنساني؟
–المقاطعة فعل فردي ضميري وإنساني يقوم به مثقف شجاع برفض الإغراء الذي يقدّمه عمل إبداعي لمن يختبئ وراء الإبداع ليخفي وجه القاتل، ولو لم يكن ثمة إغراء أو ثمة إبداع أو ثمة شجاعة لما كان لزوم للمقاطعة، فكيف عندما تصبح قراراً سياسياً لدولة تنحصر مهمة الأفراد بتطبيقه لا التلاعب به.
-التراجع عن الخطأ فضيلة يا معالي الوزير، فكيف في زمن انفعالات القدس والمشاعر الساخنة للتضامن مع عهد التميمي وأخوتها وأخواتها.