وأخيراً .. سوريا منصة الإنطلاق لتفاهم روسي – اميركي د.منذر سليمان
خلف الكواليس
بوصلة العلاقة بين القوتين العظميين تحدد مسار وسقف التوازن والاستقرار العالمي، بديهية يدركها اصحاب الشأن، مسؤولين ومواطنين، معوّلين على ان تسفر نتائج اللقاء عن معالجة الملفات الملتهبة وإبعاد شبح الحرب والمواجهة وخطاب التسعير.
النتائج الاولية “المعلنة” لم تشفِ غليل المراقبين والطامحين لاجواء انفراج في العلاقات الثنائية بما يكفي، لكنها أقلقت معسكر الحرب والتصعيد في واشنطن، وستأخذ حيزاً لا بأس به من النقاش والجدل في الايام المقبلة.
ضغوط المؤسسة الاميركية بكافة أطيافها على ترامب لم تتوقف كي لا يجنح للخروج عن السياق المُعد ويقدم “تنازلات” للرئيس الروسي. القوى الرئيسة النافذة في آلية صنع القرار تخشى من أي تقارب لترامب مع روسيا وتعتبره نقطة ضعف، كما لا يروق لها التوصل لتسوية الملفات الملتهبة، او في طور الاعداد – كوريا الشمالية، اذ ترى ان ديمومة الصراعات تصب في خدمة مصالحها.
ما رشح عن لقاء رئيسي الدولتين العظميين، وهو قليل كماً لكنه فاصل في توجهاته، يؤشر على عزم كل من واشنطن وموسكو التواصل وتحقيق مزيد من التفاهمات، وبلورة حلول سياسية لتدشين عصر جديد في العلاقات الدولية.
ما نحن بصدده هو القاء المزيد من الاضواء على المشهد الاميركي الداخلي والكشف عن حقيقة ما يجري داخل اروقة صنع القرار، بتركيز شديد على المتغيرات في الشأن السوري.
قبل عقد قمة العشرين معدودة أطلق وزير الخارجية الاميركية، ريكس تيلرسون، يوم الخامس من تموز، بياناً “بشأن الوضع الحالي في سوريا،” يطرح فيه “توجهاً جديداً” يُغلِّب فيه التعاون مع روسيا عوضاً عن التصادم في سوريا ؛ وتفادى الوزير الخوض في “تقرير مستقبل الرئيس السوري،” كلمة السر في توجهات اعوان الولايات المتحدة في الاقليم، مطلقاً العنان لآليات تعاون ثنائية لبسط الاستقرار والحفاظ على وحدة الاراضي السورية.
توجهٌ لم يعهده العالم أجمع من واشنطن في هذا الظرف بالتحديد، خاصة بعد زيارة ترامب للرياض قبل بضعة أسابيع والتي ارخت بظلالها على السعودية ودورها في الإقليم بشكل خاص.
القوى الاميركية المتربصة بترامب وسياسته نحو روسيا افصحت مراراً عدة عن قلقها من “بلورة ترامب وفريقه سياسة خاصة بسوريا .. توثق أطر التعاون مع روسيا لتحقيق هدف مشترك وهو الحاق هزيمة محققة بداعش.”
وما لبث بيان تيلرسون ان اتخذ صيغة “سياسة جديدة لإدارة ترامب نحو سوريا .. تتفادى الخوض في تقرير مستقبل (الرئيس) الأسد.” أمرٌ أغضب القوى التقليدية التي ما فتئت تذكّر البيت الابيض بتعهداته الانتخابية حول المسألة وتأكيده بأن “الأسد ليس مشمولاً في الحل المقبل لسوريا.”
كما يشار الى تصريح وزير الخارجية تيلرسون خلال زيارته لتركيا، آذار الماضي، حيث ان “مصير الأسد يقرره الشعب السوري؛” قبل انقلابه سريعاً على ذاته مشددا “.. لن يكون له دور في حكم الشعب السوري.”
الانعطافة الأخيرة في تصريحات الوزارة السيادية كانت لافتة ومعبرة، ومقلقة أيضاً لأركان في المؤسسة. تيلرسون وخلال لقائه الأمين العام للأمم المتحدة، انطونيو غوتيرس، قبل أيام معدودة أبلغ ضيفه “إن مصير الرئيس السوري بشار الأسد هو الآن في يد روسيا، وأولوية إدارة ترامب تقتصر على إلحاق الهزيمة بتنظيم الدولة الإسلامية…”
وحسبما افادت “ديلي بيست”، 7 تموز، إلى أنه في إطار الخطة/ الاستراتيجية الأميركية الجديدة لن يكون هناك معارضة من واشنطن لاقتراحات روسيا وشركائها حول “مناطق تخفيف التصعيد” في سوريا وقيام العسكريين الروس بدوريات المراقبة في عدد من مناطق البلاد.
وانضم وزير الدفاع جيمس ماتيس لدعم تهيئة “التحوّل” في سياسة ترامب نحو سوريا بالقول “نرفض الانجرار الى الحرب الأهلية السورية،” في اوضح تعبير عن خشيته وفريقه العسكري من “الإنزلاق إلى المستنقع السوري،” في أعقاب الغارات الاميركية على الجيش السوري في محيط التنف، على مقربة من الحدود الاردنية والعراقية المشتركة مع سوريا.
ضغوط قبل اللقاء
تشكل إجماع ملفت بين أبرز مواقع المؤسسة الحاكمة، لا سيما في مراكز الفكر والابحاث، على التوصية بالاستمرار في “ممارسة ضغوط كبيرة على ترامب لاتخاذ موقف متشدد .. والحيلولة دون تحقيقه آماله الانتخابية في التقارب من روسيا.”
كما روجت تلك المواقع مجتمعة لخفض سقف التوقعات الى ادنى مستوى ممكن “ينبغي ان يكون لدينا توقعات منخفضة للقاء ترامب – بوتين .. ليس هناك جدول أعمال محدد للقاء الثنائي،” كما أوضح معهد هدسون.
فريق المشككين، ومن ضمنهم وزراء في ادارة ترامب وفق التسريبات الاخيرة، علّق بسخرية ان من ضمن الملفات الغائبة عن جدول الاعمال قضايا ساخنة تهم الطرفين “لا يوجد اتفاق للحد من الاسلحة؛ ولا اتفاق سلمي حول سوريا؛ ولا (اتفاق) لتجميد النووي الكوري؛ أو رفع العقوبات الأميركية على روسيا؛ بل لن يتم البحث في تسوية كل من جورجيا واوكرانيا.”
أحد أبرز مراكز الابحاث شهرة وتأثيرا، معهد بروكينغز، أعلن عن “وصفة طبية” للرئيس ترامب قبل لقائه عليه الاقتداء بنقاطها الخمسة: مناشدته التصديق على قناة اتصال تيلرسون – لافروف؛ الحفاظ على قناة تنسيق مباشرة مع روسيا في مناطق خفض التصعيد في سوريا؛ تذكير الرئيس الروسي بأزمة اوكرانيا التي تشكل عائقاً أمام تحسين العلاقات الثنائية، وإعادة تفعيل مسار الحل السياسي؛ إعادة الالتزام (الاميركي) بمعاهدة القوات النووية متوسطة المدة، لعام 1987، وقبول عرض (الرئيس) بوتين بتمديد العمل بمعاهدة خفض الاسلحة الاستراتيجية، سالت، لعام 2026، مما “.. سيحصنك ضد أي اتهام بتقديم تنازل غير مناسب لموسكو؛” ينبغي إثارة مسألة التدخل الروسي في الانتخابات (الاميركية)، إذ ان الاحجام عن مناقشتها سيعرضك ليس لسيل من الانتقادات فحسب، بل سيشكل ضمانة لاستصدار الكونغرس قراراً يحد من مرونة صلاحياتك في تعديل العقوبات على روسيا.
ستخضع تلك “الوصفة الفكرية” الى مزيد من التدقيق والتمحيص ومقارنتها بما تم التوصل اليه بين الطرفين في الايام والاسابيع المقبلة، ونجازف بالتكهن بأن نقاط البحث المدرجة شملت تلك الملفات بالصيغة المقترحة اعلاه، مما يعززه مقال لصحيفة واشنطن بوست، 7 تموز، أسدى نصيحة للرئيس ترامب بأن محاوره الرئيس بوتين “.. شخص محنك سياسياً، وعليك التحدث في مسألتي سوريا واوكرانيا، وتجنب الحديث في موضوع حلف الناتو.”
انضمت ايضا الصحف الاميركية الرئيسية في التمهيد لقبول التقارب الاميركي مع روسيا، تصدرتها واشنطن بوست بتأكيدها على “ضرورة تعاون واشنطن مع روسيا في سوريا .. وإلا ستزداد الاوضاع سوءاً وتلقي بظلالها على جميع الأطراف.” واستطرد المحرر الشهير في الصحيفة، ديفيد اغناطيوس، في ابراز المنافع التي ستعود على بلاده اذ “إن التعاون .. الاميركي الروسي يساهم في تهدئة التوترات في سوريا، ويعتبر نموذجاً محتملاً لأهمية العمل في مناطق تخفيف التصعيد.”
على الطرف المقابل، نقل اغناطيوس عن “أعضاء في مجلس الأمن القومي يساندهم اعضاء متشددون في الكونغرس” يعارضون أي توجه للتوافق مع روسيا بالتحريض ضد ايران التي “ينبغي على الولايات المتحدة القيام بعملية عسكرية لمنعها وحلفائها .. من الفوز بممر في جنوب شرق سوريا، والذي من شأنه ان يربط ايران بلبنان” بشريط بري متصل.
أين “الكيان الاسرائيلي“؟
سارعت الادارة الاميركية الى التركيز على “نتائج مثمرة وبناءة” للتنسيق مع روسيا، بالاشارة الى جهودها في التوصل لاتفاق “وقف اطلاق النار” في جنوب – شرقي سوريا، درعا ومحيطها، والتي سبق للجيش السوري ان أعلن عن تثبيته وقف اطلاق النار هناك من جانب واحد، ومن ثم مدد المهلة الزمنية.
الجنوب السوري، خاصة المحتل منه في هضبة الجولان، شهد توسعاً تدريجيا للجيش العربي السوري في بسط سيطرته على مناطق سقطت بأيدي التنظيمات المسلحة بدعم تسليحي وطبي من سلطات الكيان. وبات على واشنطن السعي في كل الاتجاهات المتاحة للحيلولة دون تمكين الحكومة السورية من بسط سيطرتها على خطوط التماس مع تل أبيب، خاصة في ظل تعثر خيار انشاء “منطقة آمنة/عازلة” هناك.
الثابت ان الادارة الاميركية، في سياق مسارها للتمهيد الى الاتفاق مع روسيا، طبقت سياسة زيارات نشطة لعدد من موفديها الى بنيامين نتنياهو، بغية التوصل الى تفاهم مشترك حول ما قد تستطيع واشنطن الفوز به خلال المحادثات.
نتنياهو وفريقه ابلغ الموفدين الاميركيين بمطالب ثلاثة ينبغي على واشنطن العمل على انتزاعها من روسيا، على حساب سوريا. ووفق ما نشرته يومية ديفينس نيوز الاميركية، 7 تموز، تحولت المطالب الى خطوط حمراء حول: انشاء مناطق خفض التصعيد العسكري على طول الحدود الاردنية مع فلسطين المحتلة، بمعزل عن ما سيتم الاتفاق حوله في مفاوضات آستانا؛ عدم السماح لقوات حزب الله وايران دخول تلك المناطق؛ عدم رغبة “اسرائيل” في لعب دور عملياتي مباشر او المساهمة في قوات مراقبة داخل تلك المناطق.
الجانب الاميركي، وفق المصادر الاميركية عينها، سعى لفرض “خطوط اسرائيل الحمراء،” والضغط لانشاء منطقة عازلة عند مدينة درعا السورية. وبالنتيجة جاء الاعلان عن تثبيت وقف اطلاق النار التي اعلنت عنه دمشق مسبقا هو أقصى ما تم تحقيقه في هذا الصدد، الى ان تبرز حقائق ووثائق تؤكد العكس.
وزارة الخارجية الاميركية، من جانبها، سعت لتوضيح اعلان الوزير ريكس تيلرسون في هذا الخصوص، إذ عقد “مسؤول رفيع لعب دوراً في المفاوضات مع روسيا” مؤتمراً صحفياً بالهاتف، 7 تموز الجاري، موضحاً ان واشنطن تعتبر “اعلان وقف إطلاق النار المعلن عنه اليوم كخطوة أولية مرحلية .. لإطلاق مناخ أفضل من أجل التوصل لترتيبات أكثر تفصيلاً وشمولية.”
واستدرك بالقول ان “الإنجاز” اليوم يؤشر على مدى التعقيدات التي رافقت المواقف الاميركية السابقة المطالبة بوقف اطلاق نار شامل في كافة الاراضي السورية “.. واتخذنا قراراً واعياً للتركيز على جزء محدد من الأزمة كبداية، وتجسد ذلك في الشطر الجنوبي الغربي” لسوريا. وأضاف ان الإعلان “..أثبت أنه الجزء الأكثر قابلية للتعاطي معه في مناخ وساحة معركة بالغة التعقيد داخل سوريا.”
القراءة الروسية والاميركية لما تم الاتفاق عليه، اتفاق درعا مجازاً، كانت متقاربة الى حد التطابق. تيلرسون، عن الجانب الاميركي، أشار الى ان “تفاصيل الاتفاق سوف يتم الانتهاء من اعدادها خلال اقل من أسبوع؛” وهو في طريقه لزيارة أنقرة والكويت. الوزير لافروف أكد أن “الولايات المتحدة التزمت باحترام جميع المجموعات (المسلحة) الموجودة هناك وقف اطلاق النار ..” موضحاً ان حفظ الأمن في تلك المساحة هي مسؤولية قوات الشرطة العسكرية الروسية “بالتنسيق مع الولايات المتحدة والاردن؛” وذلك مبدئياً حتى يتم التوصل إلى تفاهم على هوية لقوات مختلطة.
الشق البارز في هذا الاتفاق، وفق ما صدر من تصريحات على لسان المسؤولين الاميركيين والروس، انه لم يرد أي ذكر “لقوات ضامنة” للأمن غير القوات الروسية؛ وبعلم الاطراف المعادية لسوريا بوجود قوات ايرانية في تلك المنطقة. تيلرسون أوضح بعظمة لسانه أنه “لم نتوصل لإتفاق ثنائي حول هوية القوات الأمنية التي ستتولى مهام تثبيت وقف اطلاق النار في سوريا.”
بعبارة مختصرة، نستطيع القول ان واشنطن خطت اتفاقاً مع دمشق عبر الوسيط الروسي، استطاعت فيه سوريا تثبيت تشبثها بسيادتها على اراضيها – وهي المسألة التي أشار اليها الوزير الاميركي تيلرسون وان عابراً بأن بلاده “تشاطر روسيا هدف استقرار سوريا ووحدة اراضيها.”
القراءة المتكاملة لاتفاق بوتين – ترامب لن تنضج سريعاً ربما، وسيكتفي المرء بالنظر الى ما يتحقق ميدانياً لاستخلاص العبر والدروس والإجابة على السؤال الجوهري إن كان هناك ما يفيد “بتحول” اميركي حقيقي يقارب الموقف الروسي عملياً، واستطراداً موقف ايران وسوريا، فرضته المتغيرات الميدانية والإقليمية والدولية والأزمات الداخلية الاميركية.
مركز الدراسات الأميركية والعربية