“نيران صديقة” في الأردن ديفيد شينكر
“فورين آفيرز“
23 حزيران/يونيو 2017
من دون ضجة إعلامية تُذكر، بدأت في أوائل حزيران/يونيو محاكمة جندي أردني متهم بالقتل المتعمد لثلاثة عناصر من القوات الخاصة الأمريكية. ولقي الحادث الذي وقع في تشرين الثاني/نوفمبر عند مدخل “قاعدة الجفر” الجوية في جنوب الأردن، تغطيةً صحفية ضئيلة نسبياً في الولايات المتحدة وفي المملكة، ومع ذلك، يقلّل عدم الاهتمام من أهمية عملية القتل ونتيجة هذه المحاكمة.
ويُعتبر الأردن أفضل حليف عربي لواشنطن في الحرب ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» وثاني أكبر متلقٍ للمساعادات الاقتصادية والعسكرية الأمريكية. بيد أنّ عدد الجنود الأمريكيين الذين قُتلوا بما يُسمّى “نيران عسكرية صديقة” في الأردن خلال فترة سنة واحدة بدأت من منتصف تشرين الثاني/نوفمبر 2015 قد تخطى عدد القتلى في أفغانستان. ولم تتسبب عمليات القتل بإحراج عمّان، في المجتمع القبلي في الأردن، فحسب، بل أن المحاكمة الجارية أيضاَ لجانٍ مزعوم تشكل حقل ألغامٍ سياسي للعاهل الأردني.
الاعتداء
في 4 تشرين الثاني/نوفمبر، حاولت ثلاث مركبات تنقل عناصر من القوات الخاصة الأمريكية المكلفة بتدريب مقاتلي المعارضة السورية المعتدلين في الأردن، دخول “قاعدة الجفر” العسكرية. وعبرت الآليات البوابة الخارجية، ولكن بعد ذلك، وفقاً للرواية الأردنية الرسمية،عندما توقفت منتظرةً عند حاجز التفتيش الداخلي، تم إطلاق النار (أو اشتعال مرتدّ في محرّك سيارة) وردّ أحد الحرّاس، وهو العريف معارك أبو تايه، بإطلاق النار على المركبة الأولى من بندقيته من طراز “M-16”.
وقُتل جندي أمريكي على الفور وعرّف جنديان آخران من القافلة عن نفسيهما وهربا. بيد أنّ ذلك لم يحُل دون مطاردتهما وإعدامهما عن قرب في غضون الدقائق الست والنصف التي أعقبت الحادث. وتعرّض أبو تايه في النهاية لإصابة خطيرة من جرّاء رصاصة أطلقها جندي أمريكي عبرت سيارته البوابة في وقتٍ سابق.
وردّت عمان بشكل دفاعي على عملية إطلاق النار. فبعد أيام من الحادثة، ألقت السلطات الأردنية اللّوم علناً على الجنود الأمريكيين لعدم تقيّدهم بالإجراءات الأمنية المناسبة، من بينها عدم التوقف وعدم التعريف عن أنفسهم بالشكل المناسب. حتى أنّ بعض المسؤولين الأردنيين همسوا أن الجنود كانوا تحت تأثير الكحول.
وبعد أيام قليلة من وقوع الحادث، بدأت وزارة الدفاع الأمريكية و “مكتب التحقيقات الفدرالي” والأردن تحقيقاً مشتركاً، وسرّب مسؤولون في وزارة الدفاع في غضون أسابيع النتائج الأولية لهذا التحقيق. وفي مقابلة مع صحيفة “واشنطن بوست” أجريت في 21 تشرين الثاني/نوفمبر، أعلن مسؤولون أمريكيون لم يُكشف عن هويتهم وشاركوا في التحقيق براءة الجنود الأمريكيين من أي مخالفة “ولم يستبعدوا مطلقاً احتمال نجوم الحادث عن سوء تفاهم”. وفي غضون ذلك، أشارت السفارة الأمريكية في عمان علناً إلى أنه “لم تظهر أدلة موثوقة” بأن الجنود الأمريكيين انتهكوا الإجراءات.
ومن ناحيتها، واصلت عمّان دفاعها عن براءة أبو تايه. وفي 6 آذار/مارس، وبعد أشهر من نشر تسجيلات كاميرات المراقبة على نطاق واسع، وجّهت السفيرة الأردنية في واشنطن دينا قعوار رسالةً إلى عضو الكونغرس الأمريكي تيد بو توضّح فيها ظروف “الحادثة المؤسفة والمأسوية” من وجهة نظر حكومتها. ووفقاً لأقوال قعوار، ردّ أبو تايه على طلقٍ ناري بالقرب من المدخل الرئيسي للقاعدة، ثم “أطلّق النار بالتالي باتجاه مصدر الصوت بالتزامن مع مرور المركبات من الجانب الأمريكي”. وكتبت السفيرة أن نتائج التحقيقات “تؤكّد عدم وجود نوايا متعمدة”. وفي الواقع، أضافت أن “تبادل إطلاق النار توقف بسرعة بعدما تبيّن أن عناصر أمريكيين ودودين يتواجدون على الجانب الآخر“.
وبعد يومٍ على الرسالة الموجهة إلى بو، أصدرت “قيادة العمليات الخاصة” الأمريكية تقريرها الخاص الذي ناقض مباشرةً رسالة قعوار. ووفقاً لما ورد في النسخة المنقحة من هذا التقرير، لم يكن هناك دليل على تعاطي الكحول أو أن الجنود الأمريكيين لم يمتثلوا للإجراءات المعمول بها، أو أن الأمريكيين هم أول من أطلقوا النار. بالإضافة إلى ذلك، واستناداً إلى تسجيلات كاميرات المراقبة وسلوك ما يقرب من 12 جندياً أردنياً آخرين متمركزين عند البوابة، استنتج المحققون الأمريكيون بشكل مؤكد أنه لم يحدث أي ضجيج من أي نوع لتحفيز الإعتداء.
ولم يدحض القصر علناً نتائج تحقيق “قيادة العمليات الخاصة”. وفي الوقت نفسه، يبدو أن الأخبار لم تنتشر على نطاق واسع بين مختلف الرتب. وفي خلال اجتماع مع فريق أول أردني في أواخر نيسان/أبريل، أي بعد مرور أكثر من شهر على صدور تقرير “قيادة العمليات الخاصة”، قيل لي بعبارات لا لبس فيها أن الجنود الأمريكيين الذين قتلوا كانوا يحتسون الكحول، وتجاهلوا القواعد المعمول بها، ووصلوا إلى الأردن مدرّبين على وجه التقريب على ازدراء نظرائهم العرب.
آثار الحادثة
حتى بعد تقرير “قيادة العمليات الخاصة”، لا تزال العديد من الأسئلة دون إجابة. فعلى سبيل المثال، قامت وزارة الدفاع الأمريكية بتطهير حراس أردنيين آخرين من التواطؤ في الهجوم. غير أنه من غير الواضح سبب عدم تدخل أي من الإثني عشر جندياً اردنياً المتمركزين فى البوابة لوقف قتل الجنود الأمريكيين، الذين وفقاً للقطات كاميرات المراقبة والمقابلات، قاموا برفع أيديهم في الهواء. كما أن تقرير “قيادة العمليات الخاصة” لم يخوض في دوافع أبو تايه. وحتى الآن، أفادت التقارير أن كلاً من “مكتب التحقيقات الفدرالي” والسلطات الأردنية لم يحصلوا على أدلة جنائية – ملفات حاسوب أو هاتف ذكي – تربط أبو تايه بمنظمة إرهابية مثل تنظيم «الدولة الإسلامية».
وللأسف، من غير المحتمل أن تُعرف الدوافع الحقيقية لأبو تايه على الإطلاق. وعلى الرغم من أن الغموض يشكل مصدر إحباط للضحايا والمحققين، يستخدم العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني هذا الألتباس كذريعة. وفي غياب صلة واضحة بشكل قاطع بمنظمة إرهابية، يحاكم أبو تايه “كمجرم” وليس “كإرهابي”. وإذا أُدين، فإنه لن يواجه عقوبة الإعدام وإنما السجن المؤبّد مع الأشغال الشاقة، أي عقوبة مدتها 25 سنة (فقط).
وستجنّب هذه العقوبة، بالرغم من شدّتها، رد الفعل السياسي المحتمل الذي قد يواجهه القصر الملكي إذا أُعدم عضواً من قبيلة الحويطات، وهي إحدى أكبر القبائل الأردنية وأولى الداعمين الأساسيين للحكم الهاشمي في المملكة في عشرينات القرن الماضي. وهناك بالفعل صفحة على الفيسبوك اسمها “كلنا معارك أبو تايه”، وقد تم نشر العديد من القصائد العربية على الانترنت من قبل زملائه من رجال القبائل التي تُشيد بما قام به. وبعد أيام قليلة من الاعتداء، نٌشرت تغريدة من حساب القبيلة على موقع “تويتر” طالبت بترقية أبو تايه عن بسالته ومن ثم تقديم اعتذار من قبل السفارة الأمريكية في عمان.
وقد ثَبت أن إدارة هذه الحوادث معقدة للغاية بالنسبة للملك عبد الله. فقد وقع آخر حادث إطلاق نيران صديقة في تشرين الثاني/نوفمبر 2015 في “المركز الأردني الدولي لتدريب الشرطة” في الموقر، قبل أقل من عام من وقوع حادثة الجفر. وخلال ذلك الهجوم، أطلق شرطي أردني متطرف النار على اثنين من المدرّبين الأمريكيين واثنين من جنوب أفريقيا واثنين من مواطني بلده وأرداهم قتلى قبل أن يُقتل هو نفسه. وفي جنازة ضابط الشرطة، هتف 3000 من المتظاهرين الغاضبين وأفراد الأسرة “الموت لأمريكا“.
كان ذلك الحادث مروعاً بوجه خاص لبلد يُعتقد منذ مدة طويلة حليفاً [للولايات المتحدة]. وفي الفترة ما بين تشرين الثاني/نوفمبر 2015 وتشرين الثاني/نوفمبر 2016، قُتل خمسة أشخاص، من بين حوالي 2000 من أفراد القوات العسكرية الأمريكية المتمركزة في الأردن، وجميعهم من قبل نظراء محليين. وفي أفغانستان في تلك الفترة نفسها، لاقى نحو 16 شخصاً من أصل 000 10 شخص تقريباً حتفهم، ولم يُقتل أي منهم بسبب قيام قوات صديقة بإطلاق النار [على قوات حفظ السلام الدولية] الأجنبية. وقد يبدو الفرق ضئيلاً، ولكن التوقعات بالنسبة للأردن تختلف اختلافاً جذرياً عن نظيراتها في أفغانستان، حيث كانت حوادث قيام قوات صديقة بإطلاق النار [على قوات حفظ السلام الدولية] شائعة نسبياً. ومن ناحية أخرى، فإن الأردن حليفاً للولايات المتحدة وشريكاً لإسرائيل. وتضم الأجهزة الأمنية – الجيش، والشرطة، والمخابرات – الأردنيون من أصل قبلي في المقام الأول، والذين كان ولائهم للملك والنظام الملكي بديهياً منذ فترة طويلة.
ونظراً للمشاعر الشعبية في المملكة تجاه الولايات المتحدة، لم يكن استهداف الجنود الأمريكيين مفاجئاً بشكلٍ خاص. وفي الواقع، يفتقر الوجود العسكري الأمريكي في المملكة إلى الشعبية تماماً. وعلى الرغم من تزويد الأردن بما يقرب من 1.7 مليار دولار من المساعدات العسكرية والاقتصادية [الأمريكية] في عام 2016، أي ما يقرب من 10 في المائة من إجمالي الميزانية السنوية للمملكة، إلا أنّه وفقاً لـ استطلاع أجراه مركز “بيو” عام 2015، لدى 83% من الأردنيين آراء غير مؤاتية عن الولايات المتحدة، وهذه النسبة هي الأعلى بين البلدان الـ 39 التي شملها الاستطلاع.
تكاليف الشراكة
دفعت حوادث النيران العسكرية الصديقة، فضلاً عن تزايد التهديدات الإرهابية بشكلٍ عام في المملكة إلى إعادة النظر في السياسة في عام 2017 وما يسفر عنها من تغييرات في السياسة الأمريكية في الأردن. وأوصى تقرير “قيادة العمليات الخاصة” بأن يقوم الآن الجنود الأمريكيون بحمل بندقية واحدة على الأقل في كل مركبة في القافلة، وأن يستخدموا المركبات المدرعة عند الإمكان. ومنذ الهجوم على “المركز الأردني الدولي لتدريب الشرطة” – بما يتفق مع المبادئ التوجيهية في القواعد العسكرية في الولايات المتحدة الأمريكية لمرحلة ما بعد حادثة فورت هود – سُمح الآن للقوات الأمريكية في الأردن بحمل أسلحة محشوّة في القاعدة. وعلى الرغم من أن هذه التغييرات ضرورية وملائمة، فقد لا تكفي لمنع المزيد من الهجمات. وبالفعل، من المستحيل معرفة مدى تأثير عملية التطرّف التي يعاني منها حالياً المجتمع الأردني على جيش الملك. لذلك، وللأسف، من المرجح أن يستمر الخطر الذي يهدد العسكريين الأمريكيين في الأردن، حتى في ظلّ تكيّف واشنطن مع الظروف المتغيّرة.
ومع ذلك، فعلى الرغم من المخاطر، لا يزال قادة المملكة يظهرون توجهاً ثابتاً موالياً للغرب ويدافعون بشدّة عن الاعتدال الديني والتسامح. وفي منطقةٍ يتزايد فيها عدم الاستقرار، يبقى التعاون العسكري والاستخباري الوثيق مع عمّان نعمة استراتيجية لواشنطن. ولكن كما تظهر الحادثة المأساوية في “قاعدة الجفر”، هناك ثمن لفوائد الشراكة الأمريكية مع الأردن.
ديفيد شينكر هو مدير برنامج السياسة العربية في معهد واشنطن.