نعوم تشومسكي: النيوليبرالية تدمر ديمقراطيتنا حوار كريستوفر ليدون
كيف قوضت النخب قيمنا الاجتماعية والسياسية والبيئية...
على مدى 50 عاما، كان نعوم تشومسكي سقراط أميركا، فهو تحدث عن آفاتنا العامة في عالمنا الشاسع، تأتي هذه المقابلة مع كريستوفر ليدون، كبرنامج أسبوعي حول الفنون والأفكار والسياسة. العالم في ورطة اليوم هذا ما كان يقوله نعوم تشومسكي لفترة طويلة. العالم لا يعرف تماما كيفية التعامل مع تحذيرات تشومسكي.
نعوم تشومسكي شخص غريب، تقول عنه صحيفة نيويورك تايمز انه أهم المفكرين المتواجدين على قيد الحياة، على الرغم من أنها نادرا ما تقتبس من كتاباته، أو تتجادل معه. ومع ذلك، فإن الرجل مشهور عالميا وموقر وهو في عامه الـ 89: هو العالم الذي علمنا أن نفكر باللغة البشرية كشيء مرسخ في بيولوجيتنا، وليست كمكتسب اجتماعي، انه الانسان الذي وقف ضد حرب فيتنام وانتقد سياسة اميركا التي لا تقوم على أسس أخلاقية، قبل الاعتبارات العملية. وهو لا يزال نجم الجامعات، في الداخل والخارج، وأصبح نجم الشمال لجيل ما بعد اوكوبي.
ولا يزال، للأسف، شخصية غريبة لدى البعض، ولكن على أرضه في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، هو أستاذ يمكن الوصول إليه بشكل طبيعي ويجيب على بريده الإلكتروني الخاص ويستقبل الزوار مثلنا.
في الأسبوع الماضي، قمنا بزيارة تشومسكي: كنا نبحث عن حساب غير قياسي لتاريخنا الحديث من رجل معروف يقول الحقيقة.
كريستوفر ليدون: كل ما نريد منك القيام به هو أن توضح لنا أين نحن في العالم بهذا الوقت؟
نعوم تشومسكي: هذا أمر سهل.
تشومسكي: حسنا، أعتقد أنه إذا القينا نظرة على التاريخ الحديث منذ الحرب العالمية الثانية نجد ان هناك شيئا ملحوظا قد حدث. أولا، خلق الذكاء البشري اثنين من الاشياء الضخمة القادرة على إنهاء وجودنا وأحد هذه الاشياء هو استخدام الأسلحة النووية. وكان واضحا في 6 أغسطس 1945، أن التكنولوجيا سوف تتطور قريبا لدرجة قد تؤدي إلى حصول الكارثة.
في العام 1947 افتتحت نشرة العلماء الذريين يوم القيامة الشهير. وبحلول العام 1953 فجرت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي قنابلهما الهيدروجينية. ولكن نجد أنه في نهاية الحرب العالمية الثانية دخل العالم أيضا في عصر جيولوجي جديد. يسمى الأنثروبوسين، العصر الذي سيشهد على تأثير كارثي على البيئة واضافة الى الخطر النووي فإن التحولات البيئية اصبحت تشكل تهديدا وجوديا له اثار شديدة ومدمرة على البشرية.
وهناك حدث ثالث بدء في السبعينيات، هو الذكاء البشري نفسه الذي استثمر في القضاء على العائق الرئيسي أمام هذه التهديدات. وهذا ما يسمى بالنيوليبرالية. لقد انتقلنا من فترة ما يسميه البعض “الرأسمالية الراسخة”، في الخمسينيات والستينيات، لفترة النمو العظيم، والنمو المتساوي، والكثير من التقدم في العدالة الاجتماعية.
ليدون: الديمقراطية الاجتماعية …
تشومسكي: الديمقراطية الاجتماعية، نعم. وهذا ما يسمى أحيانا “العصر الذهبي للرأسمالية الحديثة”. وقد تغير ذلك في السبعينات مع بداية العصر النيوليبرالي الذي كنا نعيش فيه منذ ذلك الحين. وإذا سألت نفسك ما هو هذا العصر، فإن مبدأه الأساسي تقويض آليات التضامن الاجتماعي والدعم المتبادل والمشاركة الشعبية في تحديد السياسة.
وكذلك تسمى هذه الحقبة “بالحرية”، ولكن “الحرية” تلك تعني التبعية لقرارات السلطة الخاصة المتمركزة وغير الخاضعة للمساءلة. ومؤسسات الحكم– أنواع أخرى من الجمعيات التي يمكن أن تسمح للناس بالمشاركة في صنع القرار – تضعف بشكل منهجي. وقالت مارغريت تاتشر “ليس هناك مجتمع، فقط هناك أفراد“.
خلال الحرب العالمية الثانية، أنشأنا طريقتين للتدمير. خلال العصر النيوليبرالي، قمنا بتفكيك طريقة التعامل كان ذلك في الواقع دون وعي حيث قال ماركس في إدانته للقمع في فرنسا، “القمع يحول المجتمع إلى كيس من البطاطا، مجرد أفراد، كتلة غير متبلورة لا يمكن التعامل معها”. وكانت تلك إدانة لتاتشر، المثالية، وهذا كان بدء للنيوليبرالية، أي تدمير او اضعاف آليات الحكم التي يمكن من خلالها أن يشارك الناس من حيث المبدأ على الأقل في الديمقراطية الاجتماعية. فضعفهم، يقوض النقابات، وأشكال أخرى من الجمعيات، ويتركون ككيس من البطاطا، وفي الوقت نفسه ينقلون قراراتهم إلى السلطة الخاصة غير الخاضعة للمساءلة في خطاب الحرية.
حسنا، ماذا يعني ذلك؟ إن العائق الوحيد أمام خطر التدمير هو جمهور يعمل بشكل مشترك ومستنير لتطوير وسائل مواجهة التهديد والاستجابة له. وقد تم إضعاف ذلك بشكل منهجي. أعني، عد إلى السبعينات ربما تحدثنا عن هذا. كان هناك الكثير من النقاشات بين النخبة حول خطر منح الكثير من الديمقراطية والحاجة اكثر إلى ما يسمى “الاعتدال” في الديمقراطية، لأن الناس ستصبح أكثر سلبية وغير مبالية، وهذا هو ما تفعله البرامج النيوليبرالية. وبالتالي كل هذه الامور تخلق عاصفة مثالية.
ليدون: الجميع يدرك ان الشعارات الرئيسية بما في ذلك بريكسيت ودونالد ترامب والقومية الهندوسية والقومية في كل مكان ولوبان كلهم يمثلوا ظاهرة العالم الحقيقي.
تشومسكي: ذلك واضح جدا، وكان يمكن التنبؤ به، ولكن لم نكن نعرف بالضبط متى، لكن عندما تفرض سياسات اجتماعية واقتصادية تؤدي إلى ركود أو تراجع فهذا يعني انك تقوض الديمقراطية، وتزيل عملية صنع القرار بعيدا عن أيدي الشعب، وهذا سيغضبه، ويثير سخطه وخوفه. وهذه هي الظاهرة التي تسمى بشكل مضلل “الشعبوية”.
ليدون: أنا لا أعرف ما رأيك في بـ”انكاج ميشرا”، ولكن أنا أستمتع بكتابه “عصر الغضب”، فهو يبدأ برسالة مجهولة من شخص ما لاحد الصحف: “يجب أن نعترف أننا نشعر برعب وبحيرة ايضا”.
تشومسكي: حسنا، هذا هو خطأ نظام المعلومات، لأنه مفهوم جدا وواضح جدا وبسيط جدا. ويمكن القول، إن الولايات المتحدة، عانت أقل من العديد من البلدان الأخرى، وفي العام 2007، كان الحسم.
ما هي السياسة الاقتصادية التي تمت الاشادة بها بعد ذلك؟ كانت الأجور الحقيقية للعمال الأمريكيين أقل بكثير مما كانت عليه في العام 1979 عندما بدأت الفترة النيوليبرالية. هذا تاريخيا لم يسبق له مثيل باستثناء الركود أو الحرب أو أي شيء من هذا القبيل. وهناك فترة طويلة انخفضت فيها الأجور الحقيقية، في حين أن هناك ثروة نشأت ولكن في جيوب قليلة جدا. وفي هذه الفترة تطورت المؤسسات الجديدة، والمؤسسات المالية. يمكنك العودة إلى الخمسينات والستينات وهو ما يسمى العصر الذهبي، حيث كانت البنوك مرتبطة بالاقتصاد الحقيقي. وكانت هذه هي وظيفتها. ولم تكن هناك أي حوادث بسبب وجود لوائح جديدة.
بدءا من أوائل السبعينات كان هناك تغيير حاد. أولا، انفجرت المؤسسات المالية على نطاق واسع. وبحلول العام 2007 كان لديها بالفعل 40 % من أرباح الشركات. وعلاوة على ذلك، لم تعد مرتبطة بالاقتصاد الحقيقي.
في أوروبا، قوضت الديمقراطية بشكل مباشر جدا. ووضعت القرارات في أيدي مجموعة ترويكا غير منتخبة: اللجنة الأوروبية غير المنتخبة، صندوق النقد الدولي، بالطبع غير المنتخب، والبنك المركزي الأوروبي.. لذلك كان الناس غاضبين جدا، لانهم فقدوا السيطرة على حياتهم. السياسات الاقتصادية تضر والنتيجة هي الغضب، والخيبة، وما إلى ذلك.
نعوم تشومسكي: ماذا يعني آدم سميث حقا “باليد الخفية”؟
لقد رأينا ذلك قبل أسبوعين في الانتخابات الفرنسية الأخيرة. كان المرشحان خارج المؤسسة. وقد انهارت الأحزاب السياسية المركزية. ورأينا ذلك في الانتخابات الأميركية في نوفمبر الماضي. حيث قام المرشحان بتعبئة القاعدة: الا ان الملياردير الذي كرهته المؤسسة، بمجرد فوزه بالسلطة، اصبح يدير بالطريقة القديمة.
ليدون: إذن، السؤال، لما لا نأخذ الخطوة الصحيحة للمضي قدما في التغيير؟
تشومسكي: أعتقد أن مصير الافراد يعتمد على تحركهم باللحظة المناسبة، والموضوع ليس مجرد عدم مساواة او ركود.
ليدون: بالعودة الى “بانكاج ميشرا” عصر الغضب،
تشومسكي: انه ليس عصر الغضب. إنه عصر الاستياء من السياسات الاجتماعية والاقتصادية التي أضرت بأغلبية السكان لجيل واحد، وقد قوضت من حيث المبدأ المشاركة الديمقراطية. لماذا لا يكون هناك غضب؟.
ليدون: بانكاج ميشرا يطلق عليه – كلمة “نيتشهين” “ريسنتيمنت”، وهذا يعني نوعا من الغضب المتفجر. لكنه يقول ايضا: “إنها السمة المميزة لعالم يصطدم فيه الوعد الحديث بالمساواة مع التفاوتات الهائلة في السلطة والتعليم والوضع الاجتماعي.
شومسكي : في العام 1970 كانت النخب السياسية قلقة من نشاط الستينات حيث شهدت البلاد أمورا خطيرة. وما حدث هو أن اعداد كبيرة من السكان – كانت سلبية، وغير مبالية، ومطيعة – وقد حاولت دخول الساحة السياسية بطريقة أو بأخرى للضغط على مصالحهم واهتماماتهم. وهذا يعني المصالح الخاصة للأقليات والشباب وكبار السن والمزارعين والعمال والنساء.
وظهرت وثيقتان في منتصف السبعينيات، من طرفي الطيف السياسي، المؤثرين، توصل كلاهما إلى نفس الاستنتاجات. أحدهما، في الطرف الأيسر، كان من قبل الدول الثلاثية الدولية الليبرالية، وثلاث دول صناعية كبرى، أساسها إدارة كارتر، وهو كان مثيرا للاهتمام [أزمة الديمقراطية، تقرير اللجنة الثلاثية]. أما المقرر الأمريكي لصمويل هنتنغتون من جامعة هارفارد، فقد نظر إلى الوراء للأيام التي كان فيها ترومان قادرا على إدارة البلاد بالتعاون مع عدد قليل من المحامين والمديرين التنفيذيين في وول ستريت. حيث كانت الديمقراطية مثالية.ولكن في الستينيات اتفقوا جميعا على وقوع المشكلة لأن المصالح الخاصة بدأت تخترق الصفوف، وهذا يسبب الكثير من الضغوط التي لا تستطيع الدولة التعامل معها.
ليدون: أتذكر الكتاب جيدا.
تشومسكي: يجب أن يكون لدينا المزيد من الاعتدال في الديمقراطية.
ليدون: ليس ذلك فحسب، فقد قال سميث “ان العلاج من اجل الديمقراطية هو بث المزيد من الديموقراطية”. وقال “لا، ان علاج الديموقراطية هو بديموقراطية اخرى”.
تشومسكي: هو كان يتحدث عن المؤسسة الليبرالية. وهذا رأي متفق عليه من جانب الليبراليين الدوليين والديمقراطيات الصناعية الثلاث. لقد توصلوا إلى توافق في الآراء – خلصوا إلى أن المشكلة الرئيسية هي في ما أسموه، “المؤسسات المسؤولة عن تلقين الشباب”. فالمدارس والجامعات والكنائس لا تقوم بعملها. الشباب يجب أن يتعود على السلبية والطاعة، ثم الديمقراطية وسوف يكون على ما يرام.
الآن ماذا لديك في النهاية ؟ لقد صدرت وثيقة مؤثرة جدا، عرفت بمذكرة باول، أصدرها لويس باول، -وهو محام في المحكمة العليا-، لغرفة التجارة الأمريكية، التي كان لها تأثير كبير. وهي اطلقت ما يسمى “بالحركة المحافظة”. البلاغة هي نوع من الجنون، نحن لا نذهب من خلال ذلك، ولكن الصورة الأساسية هي أن هذا الهائج اليساري اتخذ كل شيء. علينا أن نستخدم الموارد التي ردها علينا اليسار الجديد المذهل الذي يقوض الحرية والديمقراطية.
وكنتيجة لنشاطات الستينيات وظهور الميليشيات في العمل، كان هناك انخفاض في معدل الربح. هذا غير مقبول. لذلك علينا أن نعكس اتجاه انخفاض معدل الربح، علينا تقويض المشاركة الديمقراطية، النيوليبرالية، لديها بالضبط تلك الآثار.
ترجمة: وكالة اخبار الشرق الجديد- ناديا حمدان
https://www.thenation.com/article/noam-chomsky-neoliberalism-destroying-democracy/