دونالد ترامب الأميركي
غالب قنديل
العبارات العامة التي تضمنها خطاب الرئيس الأميركي عن السياسة الخارجية لإدارته لم تقل شيئا فعليا بل كانت أقرب إلى مجاملة وطمأنة للواقع الدولي بالتمسك بالتحالفات القائمة والسعي إلى شراكات جديدة وهو في ذلك يمهل نفسه مع فريقه لوضع السياسات الخارجية وبلورة الخيارات في الأسابيع المقبلة وقد خصص بندا وحيدا لمحاربة الإرهاب الإسلامي المتطرف حاول البعض عنوة اعتباره تجسيدا لنزعة عنصرية ضد المسلمين سيرا على خطى خصوم ترامب الأميركيين في شيطنته.
كان جل الخطاب الرئاسي مكرسا للداخل الأميركي حيث لم يجامل دونالد ترامب وكان واضحا في الكشف عن هويته وتوجهاته مع دخوله إلى البيت الأبيض مؤكدا تبنيه لمشروع إعادة بناء الولايات المتحدة من الداخل وتكراره لشعار أميركا اولا كان المحور الرئيسي في الخطاب ويمكن ملاحظة توجهات ترامب في هذا المجال من خلال نص الخطاب وفقراته الرئيسية.
أعلن الرئيس الأميركي بكل صراحة ان تسلمه للرئاسة هو استلام للسلطة من واشنطن أي من المؤسسة التقليدية الحاكمة لرد السلطة إلى الشعب وليجاهر بانتقاد النخب البيرقراطية التي شكلت قاعدة إنتاج الإدارات الأميركية وأعادت إنتاجها على امتداد العقود الماضية لصالح شرائح ضيقة ورقيقة على حساب الشعب الأميركي وفئاته الوسطى والفقيرة.
خاطب الرئيس الأميركي جميع المهمشين والفقراء وأبناء الطبقات الوسطى الذين شكلوا منذ إعلان ترشحه هدفا لخطابه الشعبوي الذي اجتاح الولايات الأميركية ضد إرادة المؤسسة السياسية التقليدية بجناحيها الجمهوري والديمقراطي وإذا كان كلام ترامب نذيرا بصدام فعلي وجوهري قد يصبح محورا ليوميات إدارته التي سعى في تشكيلها لاستمالة بعض اجنحة المؤسسة الحاكمة ولا سيما من الجنرالات السابقين فإن ما اطلقه مؤخرا من مواقف انتقادية حادة حول سلوك اجهزة الاستخبارات والإمبراطوريات الإعلامية الكبرى يرجح احتمال عصف الترامبية بمواقع كثيرة في هياكل بيرقراطية واشنطن ونخبها.
المحور الاقتصادي لتوجهات ترامب يعكس المأزق الأميركي العام الذي انتج خيار ترامب كمرشح للرئاسة الأميركية وبالأخص ارتدادات العولمة وهو تضمن مسألتين بارزتين : الحدود والحماية ( الجمركية ) وإعادة بناء البنية الأساسية المهترئة التي شكلت هدفا لمشروع ترامب الاقتصادي الذي يتوقع ان يستغرق ما يزيد على عشر سنوات من عمليات إعادة بناء الطرق والمطارات والموانيء والمدارس والكهرباء والمياه والمرافق العامة في الولايات الأميركية لاسيما منها الولايات المهمشة التي خصها بإشارات مباشرة وبالفعل فإن هذا المشروع العملاق الذي يعطيه ترامب عنوان إعادة بناء قوة اميركا الاقتصادية بدا في نظر العديد من الخبراء فرصة إنعاش اقتصادية لانتشال البنيان الاقتصادي الأميركي من حلقة الركود الخانق بواسطة المال العام الذي انفقت منه تيرليونات عديدة في تمويل الحروب الفاشلة خلال العقدين الماضيين وهو ما سيكون انتقالا في اولويات توزيع الثروات من قبضة الأوليغارشية المالية ( أي عصابة وول ستريت ) إلى الشرائح الرأسمالية المحلية ولاسيما الصناعية التي خاطبها الرئيس الأميركي بالتشديد على إعادة فتح المعامل المغلقة نتيجة الإفلاسات والمزاحمة وبتطبيق الحماية الجمركية والسعي لاسترجاع الرساميل النازحة إلى السوق الأميركية .
الكلام عن عودة الحدود كان علامة فارقة في الخطاب الرئاسي وهي تشمل انتقال البضائع والأفراد أي التصدي للتهريب وللهجرة غير الشرعية في التعامل مع معضلة اميركية متضخمة سيواجه اختبار ترامب لصدها عقبات كثيرة داخلية وخارجية.
هل يعبر الخطاب بتلك الأولويات عن نزعة انعزالية كما يسميها البعض ؟ ام هو بصورة ادق يمثل خيار العودة إلى إعادة بناء الداخل الإمبراطوري الأميركي بعد بوادر انحسار الهيمنة الإمبراطورية الأحادية على العالم والتي كانت العولمة تحت الهيمنة رسالتها العالمية وشكلت الحروب المتنقلة الفاشلة والمكلفة في العشرين عاما الأخيرة اداتها لتطويع العصاة والمتمردين ونشر الإذعان السياسي والاقتصادي لمشيئة بيرقراطية واشنطن في الداخل والخارج؟
ترامب يفتح أبوابا موصدة كثيرة ويتحدى مواقع نافذة في السلطة السياسية والأمنية لبيرقراطية واشنطن ويعول على استقطاب حركة في المجتمع الأميركي استطاع إثارة حماستها ومخاطبة مشكلاتها وهو شديد الانضباط بما تجسده فكرة الهيمنة الأميركية العالمية وبما يقتضيه التعامل مع العديد من الملفات الخارجية وخصوصا مركزية الدور الصهيوني في الاستراتيجيات الأميركية بالنسبة لمنطقتنا لكن ترامب يعكس بجرأة خيبة المشروع الإمبراطوري وفشل مغامراته العسكرية في العالم وسيتحرك ضاغطا ومفاوضا في جميع الاتجاهات مع حلفاء واشنطن ومع خصومها لخدمة المصالح الأميركية التي يعطي فيها اولوية ظاهرة لتخطي الركود الاقتصادي بدلا من شبق الهيمنة السياسية ومنع صعود القوى المنافسة الذي شغل دون جدوى إدارتي بوش واوباما على السواء وبكلمة إن الإمبراطورية المهزومة ترتد بصراعاتها إلى الداخل وصراع الأجنحة يدور حول سبل احتواء الفشل والتراجع.