الإدارة الاستراتيجية الروسية
غالب قنديل
تدرك القيادة الروسية من موقعها في الصراع العالمي على مستقبل التوازنات والمعادلات اهمية سورية كعقدة استراتيجية منذ قرارها بالفيتو في مجلس الأمن الدولي خريف 2011 وهي منذ سنوات تسهم في صد العدوان الاستعماري على حليفتها الجمهورية العربية السورية .
تتصرف روسيا بوعي تام لطبيعة المخطط الذي يستهدفها والصين ومجموعة البريكس وإيران انطلاقا من سورية وقد ظهرت بأي حال دراسات وتقارير اميركية تكشف الكثير عن حلقة ما بعد إسقاط سورية في التخطيط الأميركي عبر إعادة توجيه الإرهاب واستعماله في اكثر من اتجاه ولذلك فقد كان الرئيس فلاديمير بوتين اكثر من واضح عندما تحدث في قمة دوشنبي عن الذهاب إلى سورية للقتال دفاعا عن الأمن القومي الروسي .
تعي موسكو بمنطق مصالحها الحيوية وتناقضها الكوني العميق مع الولايات المتحدة ان الانتصار في سورية هو نقطة تحول فاصلة في الوضع الدولي سوف تكون لها حصة وفيرة من ثمارها ومكاسبها الاستراتيجية وهي تدرك أيضا خصائص السلوك الأميركي الخبيث الذي يتسم بالكثير من المناورات وبتوزيع الأدوار داخل معسكر العملاء بما يضم من حكومات تابعة تدعم فصائل الإرهاب.
من أضعف الافتراضات التي ظهرت مؤخرا كلام متكرر عن صفقة روسية اميركية على حساب سورية بينما يستمر النهج العدائي الأميركي الأطلسي ضد روسيا من العقوبات الاقتصادية الغربية إلى الدرع الصاروخي في اوروبا الشرقية ونشر قوات الناتو قرب الحدود الروسية بينما فرض الميدان السوري تراجعات اميركية ظاهرة امام الروس فكيف يعقل ان يفرطوا بمصادر القوة التي صنعوها مع حلفائهم السوريين وشركائهم الأقوياء إيران وحزب الله.
تقول مصادر دبلوماسية روسية إن موسكو تعلمت الكثير من دراسة النموذج الأميركي للسياسة الخارجية ولا يمكن أن تنطلي على القادة الروس ألاعيب واشنطن ومحاولات التذاكي والخداع والمناورة ولذلك ومنذ تسوية الكيماوي في أيلول 2013 التي كانت تغطية روسية كثيفة لتراجع الرئيس الأميركي عن قراره بمهاجمة سورية عسكريا سارت القيادة الروسية في خط تراكمي صاعد بلا ضجيج لوضع الإمبراطورية الأميركية ومعها حلف العدوان برمته بين مطرقة التوازنات وسندان التفاوض.
وهكذا جمعت الإدارة الروسية الاستراتيجية للصراع بين انتزاع التنازلات السياسية بعد كل جولة عسكرية جديدة عبر التفاهمات الثنائية مع الولايات المتحدة التي يرسم خطها البياني طريقا نافرا لتراجعات السياسة الأميركية ضد سورية بينما تواصل موسكو دعم القدرات العسكرية للجيش العربي السوري الذي بلغ منذ العام الماضي درجة الانخراط الروسي المباشر الذي أتاح تقدما هائلا للدولة الوطنية السورية وقواتها الشرعية وسائر القوى المقاتلة المؤازرة لها على الأرض والتي فرض على الأميركيين ان يسلموا بشرعية دورها جهارا في بيان الإعلان عن الهدنة.
الرؤية الروسية في الإدارة الاستراتيجية للصراع تهدف واقعيا إلى خفض منهجي لأكلاف تحرير المناطق السورية من عصابات الإرهاب بعدما اخضع الروس واشنطن لأولوية مكافحة الإرهاب وخصوصا مقاتلة داعش وجبهة النصرة القاعدية وفرضوا عليها اجندة سياسية أسقطت منها العناوين الأميركية التي رفعت منذ خمس سنوات بحيث أرغمت روسيا الجانب الأميركي على التسليم بعملية سياسية سورية مرجعيتها صناديق الاقتراع السورية وإطارها الدولة الوطنية العلمانية .
التناغم بين روسيا وحلفائها الموثوقين في الميدان وفي إدارة الصراع يحتمل ظهور تباينات مفترضة او محتملة في تقدير الموقف جزئيا وموضعيا من حيث الحيز المتاح للحركة القتالية وأولوياتها التكتيكية او من حيث توقيت هذه الخطوة او تلك وليس النقاش في ذلك محرما لكن بينت تجربة الأسابيع المنصرمة مدى اشتغال المعسكر المعادي على استثمار مثل تلك الظواهر وسعيه إلى تضخيمها لبذر الشكوك واختلاق التناقضات ولتوهين المعنويات والقوى بينما بالغ البعض من محور المقاومة في التعامل مع هذه المواضيع.
قيل الكثير من الكلام وسرب الكثير من الشكوك في تضخيم ما جرى ترداده عن اختلاف تقدير الموقف بعد الهدنة ومع اتضاح مؤشرات خداع اميركي كانت روسيا له بالمرصاد ففضحه وزير الخارجية ومتحدثون آخرون من موسكو ووجهت رسائل روسية سياسية وميدانية توضح طبيعة الردع المحتمل في حال التمادي ولم يقد الحرص الروسي على حماية مكاسب التفاهمات مع الولايات المتحدة إلى تهاون او تساهل مع التجاوزات الأميركية والاندفاعات العسكرية الجديدة التي ألهبت حماسة المشككين مرة اخرى يجب ان تكون درسا في التروي والهدوء والابتعاد عن الغوغاء والتثبيط الذي يؤذي ولا ينفع رغم ثقتنا بحسن النوايا التي يحملها أصحاب العقول الانطباعية والمواقف الانفعالية الذين يهللون اليوم لأوامر العمليات الجديدة.
المعركة على مستقبل العالم الذي يتقرر من سورية ليست نزهة سهلة والدهاء الروسي الذي يدير اللعبة الاستراتيجية يعمل لصالح سورية ومحور المقاومة كما تبرهن الأحداث مجددا والجهد الروسي الذي ما انفك يخرج المزيد من البلدات والمواقع من جبهات الاشتباك بترتيبات الهدنة وبالمصالحات التي تديرها الدولة الوطنية السورية يبدو امرا حيويا لتحرير المزيد من الوحدات المقاتلة وحشدها إلى جبهات الحسم العسكري سواء في الرقة ام في حلب ام في الغوطة او على جبهة الجنوب وكما جرى في تحرير تدمر سنكون امام مشاهد جديدة وإنجازات جديدة تتطلب ترسيخا لثقافة الثقة بين الحلفاء بدلا من الوقوع في أفخاخ العدو واجترار ما يصنعه لتضليلنا ولتفرقة الصفوف واختراقها وهذا ما يجب ان يدركه جيدا إعلاميو محور المقاومة .