وقف النار في سوريا يكشف تركيا: العزلة الكاملة! محمد نور الدين
رحّبت تركيا بوقف إطلاق النار في سوريا، الذي يفترض سريان مفعوله اليوم السبت. لكنه ترحيب مقرون بالخشية من أن يكون على شاكلة قرارات سابقة في السنوات الأخيرة على حد تعبير المتحدث باسم الحكومة نعمان قورتولمش.
لا تستطيع أنقرة سوى الترحيب، بعدما لم يتبق لها ما ترحّب به. في المبدأ وقف النار يتيح لتركيا القول إنه بفضل قصفها المدفعي لضواحي إعزاز استطاعت أن تحول دون تقدم «قوات حماية الشعب» الكردية السورية إليها. لكن هذا «الإنجاز» التركي لا معنى له، ومن دون أي مضمون عملي. إذ إن طريق الإمداد من إعزاز إلى حلب قد قطعت، ولا يوجد منفذ لإعزاز سوى في اتجاه الحدود التركية القريبة.
وقف النار لا يحقق لتركيا أي مكسب، بل إنه يحمل لها عوامل قلق إضافية لما يمكن أن تكون تداعياته على شعاراتها، التي رفع الثنائي رجب طيب أردوغان ـ أحمد داود اوغلو نبرتهما بشأنها في الأيام الأخيرة.
1 ـ حدّد وقف النار بوضوح أن العمليات العسكرية ستتواصل ضد تنظيم «داعش» و «جبهة النصرة» وتنظيمات إرهابية أخرى، يعمل مجلس الأمن الدولي على تحديدها. هذا الاستثناء لا يصبّ في مصلحة تركيا، فهي من الذين يقفون وراء «داعش» و «النصرة» منذ وقت طويل. ولكن بما أنها قد أعلنت الحرب ضد «داعش» منذ تموز العام 2015، لتبرر الحرب ضد الأكراد، فهي لا تستطيع أن تنتقد استثناء «داعش».
لكن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تحدّث، الأربعاء الماضي، في «لحظة تخلٍّ» عن «جبهة النصرة» مدافعاً بطريقة واضحة جداً عنها. وقال أردوغان، في لقاء روتيني مع مجموعة من المخاتير، «يقولون إن قوات الحماية الكردية تحارب داعش ولذا هم يدعمونها. إنها الكذبة الكبرى. ذلك أن النصرة أيضاً تحارب داعش. فلماذا تقولون عن النصرة إنها سيئة؟ حينها يجب أن تقولوا عنها إنها جيدة. تقولون إن النصرة سيئة فيما قوات الحماية الكردية جيدة. المسألة مختلفة. إنه منطق إرهابيين جيدين وإرهابيين سيئين». وكم كانت مفارقة أن تحذف الصحف الموالية لأردوغان، مثل «يني شفق» و «صباح» و«أقشام» عبارة أردوغان عن دعم «جبهة النصرة»، وهي التي اعتادت على نشر تصريحاته حرفاً حرفاً.
2 ـ ليس من غضب تركي أكبر من أن ترفض الولايات المتحدة دعوات أنقرة لاعتبار «حزب الاتحاد الديموقراطي» الكردي في سوريا تنظيماً إرهابياً. كل الحركة التركية في الأسابيع الأخيرة كانت تهدف إلى تصنيف أكراد سوريا على أنهم إرهابيون. لكن الاشتباك السياسي اليومي بين واشنطن وأنقرة كان يؤكد، في كل مرة، على رفض الأولى منطق الثانية.
القلق التركي هو أن الحرب التي ستستمر ضد «داعش» و «النصرة» وغيرهما ستشارك فيها «قوات حماية الشعب» الكردية، لكونها على خطوط التماس مع غالبية المناطق التي يسيطر «داعش» عليها. لكن أبعد من هذا، فإن هذه المشاركة، المدعومة من أميركا وروسيا، ستجعل «قوات الحماية» أقوى من قبل، ورصيدها بعيون التحالفات ضد «داعش» سيكون أكبر. بل سترسخ هذه المشاركة شرعيتها بوصفها تنظيماً حراً يحارب الإرهاب، ما يسقط نهائياً المنطق التركي تجاهها. وهو ما دفع أردوغان ليهدّد بأن «ساعة الحقيقة حانت لنتكلّم بوضوح مع الحلفاء، بأننا وصلنا إلى مفترق طرق في هذه النقطة».
3 ـ أكثر من ذلك، فإن القلق التركي يذهب إلى الداخل التركي، ومن الموقف الأميركي من «حزب العمال الكردستاني». إذ إن أردوغان اتهم واشنطن بأن الذي «لم تستطع فعله مع حزب العمال الكردستاني تفعله الآن مع حزب الاتحاد الديموقراطي»، في اتهام شبه علني بأن الموقف الضمني لأميركا هو دعم «الكردستاني».
4 ـ واستطراداً، خارج سياق وقف النار، فإن التباين بين أردوغان وواشنطن تجسّد في هذه المرحلة أيضاً في موافقة لجنة العدل بمجلس الشيوخ الأميركي على مشروع قرار يعتبر جماعة «الإخوان المسلمين» تنظيماً إرهابياً. وفي ذلك رسالة قوية إلى أردوغان الراعي الأول لـ «الإخوان المسلمين» في المنطقة.
5 ـ في العودة إلى وقف النار، فإن القرار يضع قوات الجيش السوري وحلفائه في واجهة الحرب ضد «داعش»، وبذلك يضعه ضمناً في خندق واحد مع الولايات المتحدة. وهذا يُسقط أيضاً الموقف التركي المستمر بالدعوة لرحيل الرئيس السوري بشار الأسد. وهو ما يثير غضب أردوغان، الذي تساءل: «كيف يمكن أن يكون قاتل نصف مليون شخص في جبهة واحدة لمقاتلة الإرهاب؟ إن هذا أمر مقلق».
6 ـ إن وقف النار في سوريا، واقتصار الحرب على «داعش» و «جبهة النصرة» لا يسمح لتركيا باستمرار إطلاق القذائف على «قوات الحماية» الكردية. وهو ما يغيظ أنقرة وجعلها، على لسان أردوغان، تطالب باستثناء «حزب الاتحاد الديموقراطي» من وقف النار، ووضعه في الكفة نفسها لـ«داعش» و «النصرة».
ترحيب تركيا اللفظي بوقف النار لا يلغي انزعاجها من شروط وظروف إعلانه من جانب روسيا وأميركا. لم تستطع أنقرة تحمل المعادلة الجديدة، فخرج رئيس الحكومة أحمد داود اوغلو معلناً، يوم الأربعاء، أن «وقف النار لا يلزم تركيا في حال رأت أنه يهدّد أمنها القومي»، بل يقول في اليوم التالي إن وقف النار ممتلئ بالأفخاخ!
المعارضة التركية استغربت موقف داود أوغلو، وطالبته بالمساهمة في ترسيخ وقف النار بدلاً من التحريض. وقال أحد نواب «حزب الشعب الجمهوري» إن تأييد أنقرة لضرب «داعش»، ورفضها ضرب «جبهة النصرة»، ستترتب عليه نتائج خطيرة على تركيا. داود اوغلو، الذي يريد حماية «النصرة»، هو نفسه الذي صرّح قبل فترة لقناة «الجزيرة» أنه إذا كان الأسد لا يسيطر على كامل الأراضي السورية إنما بفضل دعم تركيا ودول أخرى للمعارضة، في دليل آخر على الدعم التركي لتنظيم «داعش» و «النصرة»، اللذين يسيطران على 90 في المئة من المناطق التي تسيطر عليها المعارضة.
7 ـ أظهرت الاتصالات الأخيرة من أجل وقف النار عزلة تركيا عن المسرح السياسي. ومع استمرار الخلاف التركي ـ الأميركي، كان أردوغان خارج دائرة الاتصالات التي قام بها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من أجل وقف النار. فقد اتصل بوتين بالرئيس السوري وأمير قطر وملك البحرين، وأخيراً بالملك السعودي الذي رحّب بوقف النار وأبدى استعداده للتعاون معه في المسألة السورية، ما دفع البعض في تركيا إلى اعتبار أن التواصل بين بوتين والملك سلمان، واستعداد الأخير للتعاون، هو طعنة في ظهر أردوغان. وبمعزل عن دقة هذا التفسير فإن استثناء أردوغان من اتصالات بوتين، كما من دور تركي في مساعي وقف النار، يظهر الوضع المأساوي للديبلوماسية التركية، وللدور التركي المترنح في سوريا والمنطقة، بفضل التقديرات الخاطئة والحسابات الوهمية للقيادة التركية، في واحدة من أكبر وأهم وأخطر التحديات التي واجهت تركيا عبر تاريخها الحديث.
لم تقتصر الخسارات التركية على أخطاء التقدير وأوهام الحسابات، بل شهد الأسبوع الماضي واحدة من اكبر الفضائح التي ينطبق عليها وصف التزوير والتضليل.
فمن المعلوم أنه بعد أقل من أربع وعشرين ساعة على تفجير أنقرة، الذي استهدف باصات تقل عسكريين في قلب المجمع الرسمي الأمني ـ السياسي في العاصمة التركية، خرج رئيس الحكومة، ومن ثم وافقه رئيس الجمهورية، بالقول إن منفذ العملية شخص سوري اسمه صالح نجار من اللاجئين الذي جاؤوا إلى تركيا في العام 2014، وينتمي الى «حزب الاتحاد الديموقراطي» الكردي السوري. واستدلت السلطات على ذلك من خلال إصبع، هو ما تبقى من جسد منفذ العملية.
واستتبع ذلك استدعاء سفراء الدول الكبرى وإبلاغهم بالمعلومات التفصيلية، وما لبث داود اوغلو أن طلب من هذه الدول اعتبار «حزب الاتحاد الديموقراطي» تنظيماً إرهابياً ومحاربته. وأعقب ذلك تصاعد الحديث عن احتمال تدخل تركي بري ضد أكراد سوريا، عقاباً لهم على تفجير أنقرة. وحينها ردت الخارجية الأميركية بالقول إنه ليس لديها ما يجزم بصحة الادعاء التركي.
المفاجأة جاءت من حيث لا تحتسب أنقرة. تبنت منظمة «صقور حرية كردستان» العملية، وأعلنت أن اسم منفذ العملية عبد الباقي سومر من مدينة فان، وينتمي إلى المنظمة. وأعقب ذلك مجيء والده ليعلن أن المنفذ ابنه. وبعد مقارنة فحوص الحمض النووي تأكدت صحة ذلك.
بطبيعة الحال أسقط بيد الحكومة من جراء هذه الحقيقة، ولم يجد المتحدث باسم الحكومة نعمان قورتولمش سوى القول إن هذا لا يغيّر من حقيقة أن الشخص قد يكون يحمل اسماً آخر. ومن حينها، وهذا حصل يوم الاثنين الماضي، لم تعد الحكومة تشير إلى هذا الموضوع.
يذكّر هذا التضليل الذي يستهدف تقديم معلومات كاذبة لتحقيق أهداف سياسية أو عسكرية، بما كان تسرب من تسجيلات صوتية قبل سنتين من اقتراح الاستخبارات التركية بإطلاق بضع قذائف من الأراضي السورية تجاه تركيا، ومن بعدها يؤخذ ذلك ذريعة لتدخل عسكري بري تركي ضد الجيش السوري.
فهل يعقل لدولة إقليمية كبيرة مثل تركيا، تتطلع لتكون لاعباً مؤسساً في النظام الإقليمي، أن تلجأ إلى مثل هذه الأساليب، لتضليل الرأي العام التركي والعالمي، وعلى لسان أرفع مسؤول فيها؟
تخرج تركيا من المعادلة السورية تدريجياً، وهي قاربت خسارة آخر أوراقها، في ظل إصرار أردوغان وداود أوغلو على القول إن هناك تحالفاً بين روسيا وأميركا وإيران والأكراد والأمم المتحدة، وفي ظل اتهام أردوغان «كل العالم» و «كل الغرب» بأنهم «لم يتخذوا موقفاً مشرفاً من انتهاك كرامة الإنسان في سوريا».
تطالب أنقرة العالم باتخاذ هذا الموقف أو ذاك، فيما لا تنظر إلى نفسها في المرآة لترى أين أخطأت، وكيف تخرج من مأزقها ولا تطالب نفسها بشيء. هل يعقل أن تتعدى دعاوى أردوغان ضد من ينتقده المئات، وآخرهم ضد لاعب منتخب تركيا السابق بكرة القدم النائب السابق عن «حزب العدالة والتنمية» حاقان شكر؟ لقد انتصرت أمس المحكمة الدستورية العليا، وبغالبية 12 صوتاً مقابل ثلاثة، لرئيس تحرير صحيفة «جمهورييت» جان دوندار وزميله أرديم غول، اللذين رمى اردوغان بهما في السجن بتهمة إفشاء أسرار الدولة، بعدما كشفا إرسال حكومة أردوغان السلاح إلى سوريا عبر شاحنات النقل الخارجي. قررت المحكمة أنهما كانا يقومان بعملهما الصحافي، ولذا إذا كان من استمرار المحاكمة ففي ظل إطلاق سراحهما لا استمرارهما مسجونين. وبالفعل خرجا من السجن مساء أمس الأول الماضي. لم ير أردوغان فيهما سوى خونة، فيما لم ير في ما يفعله هو في سوريا، ومنذ خمس سنوات، انتهاكاً لسيادة دولة أخرى.
لقد وصلت تركيا إلى مرحلة استعدت هي بسياساتها المغامرة والخيالية، وشعاراتها الخشبية، كل الدول والقوى المحيطة بها، وفي المنطقة والعالم. هل يعقل أن يكون العالم كله على خطأ وأنقرة وحدها على صواب؟ لا يفعل الثنائي أردوغان ـ داود اوغلو سوى تكرار تجربة ثلاثي الاتحاد والترقي «أنور ـ طلعت ـ جمال»، حين انتهت مغامرتهم البائسة إلى انهيار الدولة العثمانية. ودروس تلك المرحلة، خصوصاً أننا في الذكرى المئوية لأحداثها، غنية لمن يريد أن يتعلم من التاريخ. لكن هل مَن يقرأ في أنقرة ويعتبر؟
(السفير)