دوافع الهستيريا السعودية
غالب قنديل
توصف الهستيريا علميا كحالة مرضية تراكمية تعكس صعوبات في التكيف مع تبدلات متسارعة في الظروف المحيطة وهي ناتجة عن سلوك رافض لتقبل الواقع تهيمن فيه تخيلات وهمية تعكس ذعرا ونقمة لتبرير حالة من الخيبة وشيئا من التعبير العنفي في الخطاب والسلوك ولو أردنا ان نلخص دوافع الهستيريا السعودية الأخيرة لكشفنا ثلاث صدمات قوية على رأس المملكة تكفي كل منها لفهم ما شهدناه :
– الاتفاق الروسي الأميركي حول سورية الذي يعد اعترافا من واشنطن بالفشل امام الرئيس بشار الأسد وحلفائه بقيادة روسيا وإيران وحزب الله وبالتالي تسليما بالنتائج التي سيقود إليها انتصار الأسد في معادلات المنطقة وفي قلب الواقع العربي الرسمي والشعبي .
– التراجع الدراماتيكي في أسعار النفط والمتوقع ان يدوم إلى ما يتعدى السنوات العشر القادمة حسب الخبراء الأميركيين ما يعني نهاية الوفرة المالية التي ضيعتها المملكة خلال عقود في سكرة الرضا الأميركي بدلا من تنويع مواردها وبناء قوة اقتصادية مستقلة قادرة على الحياة في عهد الغروب النفطي كما فعلت إيران رغم الحصار.
– ثبات التحولات الدولية والإقليمية التي ترعب العائلة السعودية الحاكمة ويمكن اختصارها بمؤشرات : حضور روسيا وصعود إيران وعجز إسرائيل وحيث يشكل التحدي الأبرز للرياض رسوخ الصعود المتسارع لقوة إيران الإقليمية والدولية بعد الاتفاق النووي وانكسار الحصار.
في هذا المناخ كان الفشل في اليمن وانتقال النيران إلى الداخل السعودي بمثابة التعبير الأدل على خيبة المملكة وفشلها الكبير في حديقتها الخلفية بينما ينصرف راعيها الأميركي للتكيف بسرعة مع التحولات وتضيق امامها هوامش المناورة ولذلك كلفة معنوية وميدانية تتزايد وهي الغارقة في فيتنامها اليمنية كما يصفها الخبراء من واشنطن بينما تذهب في الداخل مكرهة إلى التقشف الذي لا بديل عنه وهي خسرت فرص حماية الكثير من مواقع النفوذ بفعل فشلها الاستراتيجي لأنها ركبت رهانا اميركيا إسرائيليا أسقطته التحولات .
أولا ليس الكلام عن نهاية الحقبة السعودية شيئا من قبيل الردح السياسي في زحمة السجالات او محاولة لرد الإهانة التي وجهتها حكومة الرياض إلى الشعب اللبناني عبر حفلات الجنون والتطاول المتمادي الذي تقوم به أبواقها السياسية والإعلامية بالافتراء على المقاومة اللبنانية التي يجسدها حزب الله عنوان الكرامة الوطنية والقوة المعبرة عن العروبة المناضلة ضد الاستعمار والصهيونية إن الاستهداف الأميركي والصهيوني والسعودي لحزب الله هو التعبير عن حجم دوره النوعي والحاسم في تغيير المعادلات الكبرى وإفشال المخطط الاستعماري.
العوامل التاريخية الدافعة لسقوط الحقبة السعودية في المنطقة مرتبطة بتحولات هيكلية أصيلة وغير طارئة تراكمت مقدماتها خلال العقدين الأخيرين فقد انطلقت الحقبة السعودية في السبعينيات من صعود هيبة الردع الصهيونية بعد حرب حزيران 1967 وتكرست مع انطلاق مسار التسوية الاستسلامية لتصفية قضية فلسطين برعاية الولايات المتحدة ضمن ما سمي عملية السلام بعد كمب ديفيد وبخطط متلاحقة قادتها واشنطن وجندت لها المملكة السعودية قدراتها المالية والسياسية والإعلامية لضرب الحلف المقاوم الذي اعترض مسار منظومة الهيمنة انطلاقا من التحالف السوري الإيراني الذي انطلق وعمد فور الاجتياح الصهيوني للبنان عام 1982 وتحول إلى قوة تغيير للمعادلات توجت بالتحرير في لبنان عام 2000.
ثانيا ثبات معادلة الردع التي أقامها محور المقاومة في وجه الكيان الصهيوني وسقوط مشاريع تصفية المقاومة الفلسطينية ونهوض طلائع شعب فلسطين إلى الانتفاضة والمقاومة ورسوخ العجز الصهيوني عن استعادة زمام المبادرة يعني سقوط أحد ركائزالحقبة السعودية ونسف الفرضية التي سادت بها وهي تعميم الوهم بان إسرائيل قوة لاتقهر وينبغي القبول بمضمون الاتفاقات الممكنة للتسوية معها تحت الرعاية الأميركية الغربية ولن يعوض للمملكة عن هذا التغيير انتقالها إلى مساحات من التعاون المعلن مع إسرائيل ضد المقاومة ولامحاولاتها المستميتة لاستهداف محور المقاومة وبالذات الحملة الهادفة للتنكيل بحزب الله والسعي إلى إيذائه معنويا وسياسيا بوصفه طليعة القوى التي أسقطت خرافة القوة الصهيونية في المنطقة منذ العام 2000 .
تراجع القوة الصهيونية وسقوط محاولات تعويضها استغرق من الولايات المتحدة خمسة عشرعاما من المحاولات اليائسة التي شملت حروبا متلاحقة على قطاع غزة وحملات ترهيب وترويع في الضفة الغربية المحتلة ودفقا من محاولات إحياء مشاريع تصفية قضية فلسطين وكانت المملكة السعودية حاضرة ماليا وسياسيا ومخابراتيا في جميع تلك المحاولات وهذه السنوات التي شهدت جهدا اميركيا غير مسبوق في المنطقة باحتلال العراق والحرب على سورية وحرب تموز 2006 وتهديد إيران انتهت إلى فشل استراتيجي مبرم .
ثالثا اضطرت الولايات المتحدة والغرب إلى التكيف مؤخرا من خلال الاتفاق النووي مع إيران وعبر حملة الانفتاح الغربية والدولية على طهران في جميع المجالات ومن موقع الاعتراف بقوتها ومكانتها المتقدمة في صياغة التوازن العالمي والإقليمي المتغير والحقبة السعودية تميزت منذ انتصار الثورة الإيرانية بانخراط سعودي مباشر في الجهد الأميركي الغربي لمحاصرة الجمهورية الإسلامية واستنزافها وتهديدها بالحروب والضغوط وهذا كله انهار دفعة واحدة وانتهى إلى هزيمة مبرمة ومرة المذاق على حكم استبدادي مطلق يخشى من التحولات الحاصلة من حوله ومن تغير البيئة الإقليمية التي ارتاح إلى هيمنته عليها طويلا .
شكلت الحرب على سورية آخر اختبارات الغرب وإسرائيل لإحياء الحقبة السعودية أي حقبة السيطرة المطلقة لمنظومة الهيمنة الاستعمارية في الشرق العربي التي اعترضتها سورية سياسيا وعسكريا منذ حرب تشرين 1973 وبعدما فشلت حروب إسرائيل تم تجريب القوة الاحتياطية التي جندتها المملكة في خدمة الحلف الاستعماري الصهيوني عبر أدوات التوحش الدموي ومرتزقة الجيوش المستعارة والشركات العالمية للقتل المنظم ومعها فصائل القاعدة والتكفير وجحافل الأخوان المسلمين ومشاريع الفتنة والتمزيق المذهبي وهاهو الفشل من جديد والحصيلة ان العائلة الحاكمة تخشى نهاية دورها وارتداد ازماتها إلى الداخل مع تقلص مساحات الدور والنفوذ الإقليمي خصوصا إذا فوتت فرص الحفاظ على القليل من مواقع الحضور المقبول بالتكيف مع النتائج من البوابة الروسية المحتملة وهذا سيتطلب التعايش مع فكرة انتصار القائد الأسد والنهوض القومي لحزب الله ومع حقيقة صعود إيران ومع انتهاء مرحلة الحديقة الخلفية في اليمن وتغير قواعد اللعبة السياسية في لبنان ومع انتهاء الوفرة المالية التي تبيح البيع والشراء في السياسة والإعلام والاقتصاد والعلاقات الدولية كما تعود الأمراء طيلة سبعين عاما مضت .