خريجو لبنان بين البطالة والهجرة
فاطمة طفيلي
تتواتر الأزمات في لبنان ولا تترك للبنانيين متنفسا ولو ضئيلا للتفكير أبعد من يومياتهم المثقلة بالأعباء والهموم، واستشراف ما سترسو عليه حرائق المحيط والمنطقة بأكملها، والتي لهم النصيب الأكبر فيها وفي نتائجها ، ليبدو المصير ضبابيا غير مرئي في ظل ما يجري من أحداث يعيشون تردداتها في كل بلدة ومدينة وشارع، يوحدهم الخوف والقلق، ويحكمهم الانتظار القاتل، وتراهم يجهدون في إيجاد منافذ ولو ضئيلة الى الأمل بالغد، معولين على الجيل الصاعد وما يمكن أن يأتي به من حلول واعدة، ولو كانت من وراء البحار، فهجرة العقول والطاقات تبقى الحل الأمر، ولكنها واردة على الدوام يتجرعها الأهل راضون بما يختاره الأبناء وهم يرسمون طريقهم باتجاه العمل وفرصه النادرة.
رغم الأكلاف العالية للتعليم يتمسك اللبنانيون به كما يتمسك الغريق بقشة قد تعينه على بلوغ بر الأمان، يقبلون عليه بغالبيتهم وبما أمكن من قدرات تبدو معدومة في الكثير من الحالات، ومع ذلك تراهم وباللحم الحي لا يبخلون على أبنائهم بفرص التعليم الباقية أملا ومنقذا لجيل مهدد بالضياع في أتون يكاد لا يهدأ، وإن هدأ فهو يحضّر لجولات قادمة من الغليان.
زينة مثال الطالبة الجامعية المتفوقة تخرجت بامتياز واحتفلت مع الأهل والأقارب بما نالته من تقدير توّج مسيرة سنوات من التعب والسهر المضني لتصل الى ما بلغته من مرتبة علمية تؤهلها للعمل وبراتب يوازي قدراتها وشهادتها الجامعية، ولكن، وكما يقول المثل الشعبي السائد “راحت السكرة وإجت الفكرة” خرجت زينة من جامعتها ومعها ملف مشرّف يؤهلها لمنصب محترم، تبدأ به مسيرتها العملية وفي البال الكثير من الحماس لأحلام بدأت ترسمها، وهي بعد على مقاعد الدراسة، كيف لا ونجاحها محط إجماع الهيئة التعليمية التي منحتها جواز المرور بفخر وبكثير من الأماني والوعود بالمستقبل، وبالفعل بدأت المهندسة الواعدة بالعمل، بعدما حظيت بمكان لها لدى أحد معارف العائلة، فرصة حسدها عليها أقرانها المنتظرون منذ أشهر، ولو كانت هي الأخرى محط تجربة واختبار يؤهلانها للاستمرار أو البحث عن مكان آخر. نجحت زينة بالاختبار وساهمت بفعالية ومهارة في المشروع الأول، ولكن ظروف السوق كانت لها بالمرصاد، فقد غرق المكتب مجددا في مهب الركود، وبلغت المشاريع حد العدم، فماذا ينفعها القبول والثناء، وقد دخلت وارباب عملها في بطالة مقنعة بانتظار ما قد يتوفر من مشاريع مشابهة تعد لها الكثير من الافكار المبتكرة.
عادت زينة للتفكير بمستقبلها المهدد وبما يمكن فعله، ولم تر في الافق سوى القبول بأي عمل يوفر لها راتبا مقبولا يقيها العوز والفاقة او العودة الى أحضان الأهل تتشارك وإياهم اكلاف الحياة الجمة، كأي فتاة اخرى لم يتح لها شرف الحصول على شهادة جامعية سلاحا كانت تعتبره الامضى في رسم طريقها في الحياة.
تتوالى الأيام وزينة تنتظر، ومثلها بقية الخريجين من دفعتها ومن دفعات سابقة، كما ستكون عليه حال بقية الخريجين القادمين، ولكن طموح الشباب الذي لا يمكن أن تحده حدود دفعهم الى استجماع قواهم والخروج الى الفرص الموعودة في الخارج، حل كان واردا منذ البدايات، ولكنهم تركوه ملاذا أخيرا على أمل البقاء بين الأهل والاقران والمساهمة في بناء بلد يريدونه على قدر أحلامهم، فما وجدوا سوى النسيان والخذلان، وها هم اليوم يعدّون العدّة للسفر كل منهم الى بلد وجدوا فيه القبول والترحيب والرغبة في استثمار قدراتهم وطاقاتهم والاستفادة من إبداعاتهم، ولهم في الكثير من الأسماء اللبنانية اللامعة التي كانت لها الريادة في ميادينها في بلدان العالم قاطبة، القدوة الحسنة والمثال، لتبقى الهجرة والاغتراب عن الأهل والوطن حلا لا بد منه في بلد ما يزال يبخس الشباب وعقولهم حق قدرهم ويتركهم طاقات مهملة فريسة البطالة والتشرد أو الهجرة والاغتراب.
قصة زينة مثال لجيل كامل يختزن الكثير من القدرات والأفكار الخلاقة، جيل تحكمه الظروف الصعبة وانعدام الفرص، جيل متروك لمصيره في بلد لا يعيره أدنى اهتمام.
فالى متى يستمر نزف الطاقات البشرية والأدمغة، والى متى يبقى شبابنا لقمة سائغة تستثمرها المغتربات، فيما وطنهم أحوج ما يكون الى عقولهم وإبداعاتهم المشرّفة، وهل سبقى نصفق للناجحين من الرواد اللبنانيين في المغتربات؟!.