لبنان والحلقة المفرغة
غالب قنديل
في ظلّ التحديات والتهديدات الزاحفة في المحيط المشتعل، يعيش اللبنانيون تحت وطأة أزمات متلاحقة معيشياً واجتماعياً ويتكيّفون فردياً مع الظروف القاسية التي تزداد توحّشاً في جميع وجوه حياتهم اليومية العالقة في قبضة مأزق سياسي مركب ومتعدّد الوجوه.
خطر العدوان الصهيوني والإرهاب التكفيري بات في عرف الناس مهمة لا لزوم لحمل همّها، فهي ملقاة على عاتق المقاومة والجيش. وخارج دائرة تضحيات وعمل هاتين القوتين الحاميتين لا وجود لأيّ جهد حركي شعبي أو سياسي داعم. والسائد فعلياً من جهة قوى وكتل فاعلة هو العمل المتواصل على عرقلة جهود الجيش والمقاومة وتنظيم المناكفات والنكد السياسي العبثي والتنكيل الإعلامي الذي يصبّ الماء في طاحونة الأعداء، وفي الحالات الفضلى نوع من المساندة الصامتة التي لو تحوّلت إلى أفعال جدية لضاعفت من القدرات والإمكانات المحشودة للدفاع عن الوجود والمصير، فالبلاد تعيش أبعد ما تكون عن مناخ التعبئة الضرورية للطاقات والجهود في وجه المخاطر التي تقرع الأبواب، وكأنّ حماية اللبنانيين هي واجب قسم منهم يبذل التضحيات ويحمل أعباء الإنكار والجحود.
أما اجتماعياً فيجهد اللبنانيون للبحث عن هوامش التكيّف المتاحة لترميم مواردهم الآخذة بالشحّ قياساً إلى حاجاتهم المتزايدة، ولا تلوح في الأفق بوادر جدية لسيرورة تغييرية سياسية أو اجتماعية، بينما يعلو الصراخ والضجيج ضدّ ما بات يسمّى بالطبقة السياسية التي تتربّع في قمة نظام مترنّح يعيش استعصاء صعباً يحول دون تجديد المؤسسات بالوسائل الطبيعية العادية، بينما تخمد نزعات التمرّد بالاستقطاب الطائفي والمذهبي الذي يحول دون انبثاق حركة جماهيرية وطنية.
هذا هو المعنى الحقيقي لمنع سَنّ قانون انتخابي جديد والتمديد للمجلس النيابي بذرائع واهية لعدم تعريض الحريرية لامتحان صناديق الاقتراع، بعد ما طرأ على واقعها التنظيمي والجماهيري من تحوّلات نتيجة تورّطها في الحرب على سورية، في حين تندلع النزاعات على تقاسم الصفقات والحصص في ريع مالي آخذ بالتقلص. وقد بات المواطنون بأملاكهم ومداخيلهم رهائن في قبضة طغمة مالية ومصرفية وعقارية تعتاش على حلقة متضخمة من الديون العامة التي يشكل استحقاق أقساطها موسماً لوحدة الجهود السياسية في حمى الاستقراض الداخلي والخارجي ضمن لعبة لحس المبرد ولتأجيل خطر الانهيار وحيث تحلّ الهندسة المالية للدين العام مكان السياسة الاقتصادية القادرة على إحياء الثروة وإنعاش الاقتصاد الوطني.
في القياس النظري تبدو الحالة اللبنانية نموذجاً لفرصة التغيير وفقاً للتوصيف الكلاسيكي حيث تعجز القوى السائدة عن إعادة إنتاج سيطرتها ويتبدّى عجز المؤسسات الراهنة عن إنتاج الحلول كما تبرهن يوميات الشغور الرئاسي وحالة الشلل النسبي المهيمنة على السلطتين التشريعية والتنفيذية، في حين تعجز الطبقات الوسطى والفقيرة عن احتمال الضغوط المتزايدة على مستوى حياتها وقدراتها الشرائية، لكن اللبنانيين بعيدون عن الثورة التي يكثرون الكلام عنها بصورة أقرب إلى اللغو بأحلام رومانسية لا وجود لقوى سياسية تحمل برنامجاً جدياً لتحقيقها.
ليس أدلّ على هذا المأزق اللبناني من إدارة الأزمات القائمة أو تعليقها بانتظار ترياق التسويات الإقليمية، وإدارة الظهر لوصفة دستورية محلية تتيح كسر الحلقة المفرغة عبر سَنّ قانون انتخاب جديد على أساس النسبية، والدعوة فوراً إلى انتخابات تشريعية فانتخابات رئاسية، ليوضع بعدهما جدول التغييرات السياسية والدستورية والاقتصادية الواجبة في عهدة المجلس النيابي، ومن يمنع هذا الخيار من سلوك طريقه الطبيعي هم أنفسهم من يبتزون البلاد بمنع إقرار موازنة عامة وتعديل سلسلة الرواتب على حدّ تسوية شبهات الإنفاق غير المشروع، ويتحصّنون بالعصبيات التي تمزق الجمهور وتمنع تحوّله إلى رأي عام تغييري.
القوى السياسية والاجتماعية المهيمنة المتعيّشة على الدين العام وعلى خصخصة الخدمات العامة وتقاسم الريع، هي نفسها التي تمنع أيّ تغيير أو إصلاح سياسي أو دستوري، وتحول دون تداول السلطة، وهي التي تشاغب على المقاومة وتعترض دورها الرادع للعدوان الصهيوني والخطر التكفيري في آن معاً.
هذا النهج بات خطراً جدياً على ما تبقى من عناصر الاستقرار وفرص النهوض والنمو بينما يتمادى نزف القوى الحية المنتجة عبر الهجرة المتزايدة للقوة المنتجة الفتية والمؤهلة إلى الخارج، وهذا ما يطيل من عمر دورة الاستنزاف والتوحش، وفي أيّ توقيت مقبل لو فتحت التفاهمات المحتملة دولياً وإقليمياً أبواب الانتخابات الرئاسية فستبقى البلاد رهينة الحلقة المفرغة طالما لم يجرِ التغيير السياسي والاقتصادي الضروري لمعالجة جذرية تنهي الأزمة البنيوية لنظام بات فاقد القدرة على تجديد نفسه.