بري ونظرة بلغة الراوي: المفاوضات النووية ونظام العقوبات
ناصر قنديل
– لرئيس مجلس النواب نبيه بري مدرسته الخاصة في التحليل السياسي التي تجد وسط الصخب اللبناني متّسعاً كافياً لقراءة في كفّ الأحداث الدولية والإقليمية الكبرى، ويرى الرئيس بري أنّ المفاوضات الدائرة حول الملف النووي الإيراني هي اختصار وتتويج لعقدين ونصف العقد من الزمن الإقليمي والدولي، منذ سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفياتي وتوقيع اتفاق الطائف وافتتاح عملية مدريد للسلام وانطلاق عاصفة الصحراء لتحرير الكويت.
– يقول الرئيس بري إنّ نظام العقوبات الغربي على إيران سقط تلقائياً، والعاقل البسيط يفكر بطريق آخر للمواجهة إنْ لم يكن للتفاهم، ولو افترضنا التفاهم شكلاً من أشكال المواجهة الجديدة في أسوأ الأحوال، ويستعرض ما سمعه من تساؤلات مسؤولين غربيين عن مخاوفهم من أن تؤدّي حالة الانفراج التي ستحلّ على إيران إذا سقط نظام العقوبات إلى مزيد من الدعم الإيراني للحركات التي تتولى دعمها وتعزيز نفوذها في المنطقة، وبالتالي قول هؤلاء المسؤولين الغربيين إنّ القلق من زيادة النفوذ الإيراني وحده يدفع إلى التمسّك بنظام العقوبات.
– يعرض بري جوابه على هذه التساؤلات والتحليلات، بقوله للمسؤولين الذين يلتقيهم، إنّ هذا القلق مشروع لو كان نظام العقوبات قد أدّى وظيفته في تقليص النفوذ الإيراني كما يسمّونه، فكلّ مريض يلجأ إلى طبيب ليعالجه من مرض أو يخفف له ما عنده من أوجاع، يواظب على زيارة الطبيب نفسه، أو استخدام الدواء نفسه إذا لاقى تحسّناً، وفي حال الفشل يستبدل الطبيب أو يطلب إليه تبديل الدواء في أسوأ حال، فكيف إذا تفاقمت حالته، وكم يمكن أن ينتظر حتى ينتبه إلى أنّ حالته تتفاقم ويدرك أنّ عليه تغيير الدواء أو الطبيب أو كليهما؟
– يتابع بري لمحدّثيه الغربيين، أنه في ظلّ نظام العقوبات الهادف إلى منع النفوذ الإيراني وتقليصه خلال ربع قرن مضى، منذ مطلع التسعينات، حدث العكس تماماً، فإذا أخذنا لبنان مثلاً، أين كان نفوذ إيران بمفهوم الغرب وأين أصبح؟ والمتحدّث صديق لإيران، وفي سورية التي كانت جزءاً من عملية مدريد وشريكاً في عاصفة الصحراء مقابل سورية اليوم التي تمدّها إيران بالكثير من عناصر القوة والصمود، وفي العراق بالمقارنة بين ما بعد قبول إيران القرار الدولي لوقف الحرب مع عراق صدام حسين وتشبيه القبول بتجرّع السمّ، وبين تحوّل إيران إلى القوة الأولى في عراق اليوم، وفي اليمن بين مناصرين قلائل لإيران يتخوّفون من مجرّد إشهار علاقتهم بها وما عليه الحال اليوم حيث القوة الضاربة في اليمن هم أصدقاء وحلفاء إيران علناً، وصولاً إلى أفغانستان، بين إيران المحاصرة بحكم طالبان وإيران التي تحتاجها أميركا للمساعدة في استقرار أفغانستان، وفي فلسطين بين مشروع أوسلو، وفي المقابل نمو التنظيمات المقاتلة من حماس إلى الجهاد وسواهما.
– ويختم بري كلامه لمحدّثيه بالقول، لو لم يكن هناك اتفاق مع إيران يجب إلغاء نظام العقوبات للفشل الذريع الذي أصابه والنتائج العكسية التي أدّى إليها، ولو لم يكن الانفتاح على إيران ثمرة للتفاهم معها وجبت تجربته كبديل وحيد متاح لنظام العقوبات الفاشل.
– حول المفاوضات الإيرانية مع الغرب، يستعرض بري حكاية بعد أن يسأل محدثه: هل سمعت بتاجر الآثار الأميركي وقصة الكلب والصحن، فيجيبه ضيفه بالنفي ليتسطرد بري، بعد أن يستوي في معقده، ويتحدّث بنبرة الراوي، أنه يحكى أنّ تاجر آثار أميركياً خبيراً ومحنكاً يعرف خزائن التاريخ الإيراني جيداً قصد بازار طهران متجوّلاً بحثاً عن صفقة العمر، فلمح كلباً يأكل في صحن قرب مدخل متجر سجاد فوقف متأملاً، حتى تيقن أنّ الصحن ينتمي إلى عصر تاريخي قديم، فقصد التاجر وفي باله ألا يلفت نظره لقيمة وأهمية الصحن، كي لا يطلب له ثمناً مرتفعاً، فتقدّم من التاجر سائلاً: إذا كان الكلب للبيع، فأجابه التاجر للتو بالإيجاب وبعد تبادل سريع لعروض التفاوض تمّت الصفقة بمبلغ مقبول، فحمل الخبير الكلب الذي اشتراه موحياً بالفرح وهو يداعب فروة رأسه، والتفت إلى التاجر بعد خطوتين سائلاً: هل يمكن أن لا نحرم هذا الكلب من صحنه الذي اعتاد تناول الطعام منه، فاعتذر منه التاجر الإيراني بأدب، ولما عرض عليه شراء الصحن زاد اعتذار التاجر الإيراني بنبرة جدية، ولما بدأ يعرض أسعاره ويرفع بها حتى بلغ رقماً خيالياً، قال له التاجر الإيراني: لولا هذا الصحن كيف أبيع كلّ يوم مثل هذا الكلب لأمثالك؟
– يختم بري لمحدّثه السائل، فيقول: لقد اشترى الغرب أشياء كثيرة لا يحتاجها لأنه تجنّب التفاوض على ما يحتاجه، وربحت إيران من بيع ما لا تحتاجه وهي تحتفظ بما لديها وتعرف قيمته لدى الغرب، حتى أدرك الغرب أنه لا بدّ من الدخول في التفاوض مباشرة على الصحن، ولذلك تبدو المفاوضات بقدر قساوتها وصعوبتها جدية ومفتوحة الآفاق للنجاح، فيستطرد السائل في ملف آخر في المنطقة أو لبنان، ليسمع من بري معادلة، أنه في نهاية المطاف كثير من الأزمات يمكن فهمها بتطبيق معادلة، الكلب والصحن، التفاوض يجري على عنوان والعين على عنوان آخر.
(البناء)