رمضان بين اليوم والأمس
فاطمة طفيلي
“رزق الله على أيام زمان”، عبارة تتردد اليوم، وفيها قدر كبير من الحنين المشوب بالحسرة على أيام مضت، وزمان كانت فيه للأجواء الرمضانية ولكل ما يواكب الشهر الفضيل نكهة مختلفة وطعما آخر، أيام كانت الروابط العائلية المانع الأول لما يجري الآن من تفكك وشرذمة بين الاهل والاقارب وما يشوب العلاقات من جفاء عابق بالأنانية والفردية، وما يحكمهما من مصالح، تكاد ترسم خطوط النهاية للاهتمامات المشتركة، التي يتبارى من خلالها الاهل والاقارب ويتفننون في ابتكار أشكال الاحتفال وتنظيم اللقاءات العائلية، التي تكاد تكون يومية تنعقد مداورة بين الأسر وتفرعاتها، والأساس في ذلك كله البيوت الكبيرة، تجمع الاصول والفروع، لتصبح المناسبة مهرجانات فرح تغطي الشهر بكاملة ويكون الكل راضيا مرتاحا، والموائد الرمضانية عامرة بأطايب تحضّرها الامهات بفرح وحب، و”لقمة هنية بتكفّي مية”، لتبقى الديارة عامرة بالإلفة والمحبة.
أين نحن اليوم من كل ذلك، وقد تغيرت الاحوال وتطورت ظروف العيش ووسائله، وبات الكل في سباق لا يتوقف مع الزمن، كل من موقعة وبحسب حالته الاجتماعية، معوزون وفقراء يكافحون للبقاء وما أكثرهم، وميسورون وأثرياء لا يملون السعي للكسب واقتناص فرص المنافع طلبا للمزيد، وما بين الفريقين مسافات شاسعة من البعد، ومهاوٍ عميقة لا يردمها الكلام المعسول أو المجاملات السطحية العابرة، التي اصبحت السمة الأبرز في المناسبات، وكادت تطغى حتى على العلاقات العائلية، إذ أصبح التواصل والتحاور عبر الواتساب او الفيسبوك وغيره من وسائل التواصل الاجتماعي هو الشكل الاجتماعي الأهم والأبرز، ولم يعد للصلات والروابط الانسانية البعيدة عن الاستعراض قيمة تذكر، فيما المشاعر ترسل منمقة مصاغة يتم تبادلها على الملأ لتصل باردة، افقدتها عوالم الاثير والافتراض دفء الخصوصية وحرارة اللقاءات المباشرة، يوم كان للتزاور وتبادل الهدايا مكانته المكرسة في المناسبات، في حال كانت العلاقة متينة إلى درجة أن يجود المرسل ببعض من وقته ليطبع كلمات يرسلها عبر الاثير، فالصور والأشكال المعدة مسبقا تبقى الاكثر تداولا، لإنجاز المهمة بالطريقة الاسرع والاسهل.
تكثر في هذه الايام الموائد الرمضانية وتتعدد أشكال الدعوات للمشاركة بعمل الخير ومساعدة المحتاجين، ومع ذلك تبقى المفارقة المؤلمة ان أعداد الفقراء والمحتاجين إلى ارتفاع ومعاناتهم إلى ازدياد مع اشتداد العوز والفاقة، فيما يمكن لكميات الطعام المتبقية من الموائد والولائم المخصصة للعناوين الاجتماعية والانسانية، ان تطعم عشرات العائلات لو لم يكن مصيرها في مكبات النفايات، ولو توفر القليل من الدراية والحرص في التعامل مع قضايانا ومشاكلنا بعيدا عن الاستعراضات الفارغة، ولو اعدنا التفكير مليا في معنى الصوم وحكمته الأبعد من الطقوس، والاعمق من اختبار القدرة على احتمال التوقف عن الطعام ساعات يمضيها كثيرون في تكديس ما لذ وطاب والدوران خلف عقارب الساعة بانتظار ساعة الصفر للانقضاض على الموائد ومن ثم “الانسطاح” تعبا وتخمة.
رمضان شهر التوبة عن المعاصي والذنوب، شهر الرحمة والمغفرة ومد يد العون لكل محتاج، شهر التعبد المتواضع لله والرأفة بعباده، شهر الخير والحسنات والصدقات وكل ما يمكن ان يشكل رافدا للإنسانية بكل أبعادها ومعانيها، هو قبل كل شيء دافع لعمل الخير وتوطيد الروابط العائلية والاجتماعية، لكنه يتحول اليوم في ظل ما يجري إلى موسم تجاري في ظل سيادة الاستهلاك الفاجر بمعزل عن الحاجة والضرورة، ليصبح الصوم مجرد تمرين للانقطاع عن الطعام، بدلا من أن يكون صونا للألسنة والأنفس من الغيبة والاذى، وابتعادا عن الكيد والدسائس.