أكاذيب تسابق سموم الحرائق
فاطمة طفيلي
تحول حريق مستودعات مخازن قاروط في منطقة سانت تيريز – الحدث الذي نشب عصر يوم الجمعة الواقع فيه الخامس من حزيران 2015 لغاية الثلاثاء التاسع منه إلى كارثة حقيقية على كل المستويات بسبب ما أحاط به من تأويلات وتحليلات كانت في الجزء الاكبر منها عمليات لعب على الكارثة ودس واستثمار دنيء لحادثة يمكن أن تحدث في أي من المناطق اللبنانية في ظل ما نعيشه من استهتار رسمي بحياة الناس وبمصائرهم وأحوالهم المعيشية وفي ظل الفلتان العمراني وغياب التخطيط المدني والفساد الذي ينخر هياكل المؤسسات الرسمية كما الخاصة، والذي يجعل تراخيص بناء لا تحدد وجهة استخدام المنشآت أشبه بتصريحات شرعية تجيز لمحصّليها القبض على مصائر مناطق سكنية بكل من فيها، وهم يؤسسون لمبانٍ تتحول بفعل أطماع اصحابها وجشعهم إلى قنابل موقوتة مرشحة للانفجار في لحظات غفلة شيطانية عن شروط ومعايير السلامة العامة على الاقل ضمانا لما يدفعون عليها من أكلاف، اللهم إلا إذا كانوا يراهنون على تأمينات مغرية يغدقون من أجلها العطايا لتأتي شكلية خالية من أي شرط يمكن إدراجه في خانة السلامة ومواصفاتها البديهية، وهذه واحدة من أسباب تنامي الكوارث وازديادها.
مسلسل الحرائق لا ينتهي وطرق المعالجة لا تتبدل، ومن الآخر يجري العمل على النتائج فتنطلق على الفور مطولات التعليل والتفسير وتقاذف المسؤوليات إلى درجة اتهام الضحايا، كما حصل مؤخرا في حريق مار الياس الذي اندلع في مطبعة ومستودع، وأدى إلى استشهاد عريفين من فوج إطفاء بيروت هما محمد المولى وعادل سعادة، اللذان اتهما في بداية الأمر بالتقاعس والفرار من المهمة، فيما هما يعانيان سكرات الموت اختناقا ثمن شجاعتهما وحماسهما للعمل على إطفاء حريق يهدد منطقة بسكانها، حتى ولو كان الثمن حياة كل منهما، لتبقى أسباب الحادث غامضة بانتظار انتهاء التحقيقات، مع كم هائل من التساؤلات وعلامات الاستفهام حول منهجية العمل والمتابعة والتجهيز والاهمال وخلاف ذلك، إلى أن يطوي النسيان الحادثة وتعود الامور إلى سابق عهدها دون أي تغيير. وسواء جرت محاسبة المسؤولين المباشرين عن عملية إخماد الحريق ممن قصروا في متابعة عمل العريفين الشهيدين أم لا، يبقى الاهم في المقاربات المنطقية لما يجري، وهو أن التحقيقات ما كانت لتنطلق لو لم يكن هناك ضحايا، وهي لم تتعامل مع الحادث بكليته للوصول إلى خلاصات ترشد إلى الاسباب ووسائل المعالجة، كي لا تتكرر الحرائق المماثلة في خضم أرضية خصبة تنذر بالمزيد، لا تحدُّها منطقة ولا انتماء، وها هي المسافة الزمنية غيرة بعيدة لا في الشكل ولا في المضمون أو حتى في الجرافيا، وكلها مناطق سكنية وليست مجمعات صناعية أو تجارية.
التعاطي مع حريق مستودعات القاروط لم يكن مختلفا لولا همة شباب المنطقة وأهلها، الذين سارعوا للمساعدة والعمل ليلا نهارا دون انقطاع ودون تعب او كلل، بما تيسر من إمكانات لم تكن بمستوى الحادثة، ولا سيما أن المتخصصين أجمعوا على أن الحريق صعب وكبير إلى حدّ وصفه بالأضخم في تاريخ الحرائق المماثلة، وسط غياب رسمي فاضح، يضاف اليه إشكاليات عدم توفر المياه اللازمة ومن مواقع قريبة، كما ينبغي، فالدول المتحضرة التي تقيم وزنا لحياة مواطنيها، تحرص وفي أساس التخطيط المدني على توفير نقاط مياه دائمة تُعتمد في مثل هذه الحالات، فتوفر الوقت والامكانات، وتؤمن فرصا أفضل لعمل سريع لا يتوقف عندما تفرغ محتويات سيارات الإطفاء المجبرة على السفر طويلا بين المناطق وعلى مسافات بعيدة في غابات طرقات مكتظة للعودة بالمياه، التي انقطع مدادها عن خزانات المنطقة، واستغرق الأمر يوما بكامله من الاتصالات والمناشدات لإعادة ضخ المياه اليها، ناهيك عن التجهيزات التي يفترض توفرها في مثل هذه الحالات، والخطط العلمية الدقيقة الموضوعة مسبقا بعيدا عن الارتجال والفوضى.
وعلى الهامش كان بعض الاعلام يتعاطى مع الحادثة بعيدا عن الوقائع، ومن باب هاجس الافادة بما يمكن أن يحقق له قصب السباق في ما يعتبره تفردا وإنجازا لتغطية افضل، لجهة التفاصيل المغلوطة بعيدا عن ادنى معايير المهنة، ينذر ويحذر جازما بـأخبار كان أهل المنطقة أدرى بكذبها وفي أحسن الاحوال بمجافاتها لما يجري، اقله خلال الحديث عن انهيار المبنى الذي ما يزال قائما إلى الآن.
وبعدما انجلى دخان الحريق، وحيث يتوقع من الاعلام ان يواصل العمل على الموضوع من باب التوعية والارشاد والضغط لتصويب العمل بما تقتضيه معايير السلامة وشروطها ولتنفيذ القانون الذي يمنع وجود المنشآت الصناعية في الاماكن السكنية والعمل على تنفيذ مخطط التنظيم المدني الموضوع في الادراج، تلافيا لأي طارئ، ومنعا لتجدد الكوارث البيئية أو على الأقل التشدد في تدابير الحماية والوقائية من الحرائق.
نسي البعض أنهم يتحدثون عن منطقة لبنانية هي ضمن حدود الجمهورية اللبنانية، سكانها لبنانيون منذ اكثر من عشرات السنين، وما يصيبهم مثال لما قد يصيب غيرهم ممن يعيشون في ظروف مشابهة وأن تغيرت مناطقهم وانتماءاتهم.
أهالي المنطقة لم يغادروها على الإطلاق، والإخلاء اقتصر حصرا على سكان المبنى المصاب، وما روي عن اقنعة واقية من المواد الكيميائية لا أساس له إلا في مخيلات بعض العقول المريضة، لأن ما شاهده البعض كان مجرد كمامات ورقيه استعان بها السكان المتنقلون للوقاية من كثافة الدخان المنبعث من مكان الحريق، وفيه ما فيه من كاوتشوك وبلاستيك وغيرها من محتويات محال يعرفها الجميع، وهي كانت وما تزال مقصدا لغالبية اللبنانيين يتسوقون في رحابها، وهم يثنون على ما تؤمنه لهم من احتياجات قلّ ما يجدونها مجموعة في أماكن أخرى. فهل كلف أحد خاطره بزيارة المنطقة والتحدّث معهم للوقوف على الحقائق، أو على الاقل لسؤالهم عن احتياجاتهم، وما يمكن أن يعينهم على تخطي المشكلة بالقدر الاقل من الخسائر.
الأهالي يُذهلون لدى متابعتهم لما يُحاك من فبركات ودسائس نتيجة غباء أو لأغراض دنيئة بعيدا عن أي حس بالمسؤولية او وازع من ضمير، ويسألون مطلقي الاضاليل والشائعات، وبعدما انتهت المشكلة دون اية خسائر بشرية، عما سمعوه من أخبار المواد الكيميائية المخبأة تحت اعتابهم، وكيف انهم نجوا منها بهذه البساطة؟!!.
ويتندر آخرون بتداول ما يشاع بالتأكيد انهم باتوا عصاة حتى على المواد الكيميائية السامة، ويجزمون بأنها بركة المنطقة تنتصر على كل الظلم والاهمال اللاحق بها وبأهلها.