قمة كامب ديفيد: انجاز معنوي محدود لاوباماواحتواء مؤقت للمخاوف الخليجية د. منذر سليمان
اوباما الرابح الوحيد
كان جليا موقف “وطلبات” الطرفين الاميركي والخليجي من بعضهما البعض قبل التئام القمة. بيد ان النتائج العامة لم تواكب قراءة الساسة الاميركيين وتوقعاتهم فحسب، بل شكلت خيبة كبيرة “لآلية فهم وادراك” دول مجلس التعاون الخليجي الذي استولدته ظروف الحرب الباردة ليتجاوز اطار الجامعة العربية، رغم هشاشتها، يشكل بديلا عنها ويفرض اجندته عليها .
بذلت دول الخليج جهودا واسعة قبل المؤتمر بغية الحصول على “التزام اميركي حازم” بحمايتها يكون له صفة التعهد الرسمي، بل والافضل خطيا. وما تعدى ذلك من طلبات اسلحة حديثة وترتيبات اخرى لا تتجاوز تفاصيل فرعية معروفة سلفا. الرئيس الاميركي وفريق ادارته ايضا رمى للحصول على “التزامات” خليجية، منفردة وجماعية، على عدة مستويات: ضمان دعم الفريق الخليجي للاتفاق النووي مع ايران وطمأنته بدعم الولايات المتحدة، من ناحية؛ وضمان عدم تعريضه الاستراتيجية والمصالح الاميركية “لاخطاء جيواستراتيجية” جراء مغامرة السعودية في اليمن، من ناحية اخرى، عقب ارتباك قادة العدوان وسوء ادارة الازمة سياسيا وعسكريا على الرغم من التأييد الاميركي المفتوح، سياسيا وعسكريا ولوجستيا، والخشية من تعمق مأزق حلفائه.
تخلف العاهل السعودي وآخرين عن حضور القمة شكل “صدمة” للبعض قبل انعقاد المؤتمر خاصة لناحية الجهود المميزة والمكثفة التي بذلها وزير الخارجية جون كيري مع “المسؤولين السعوديين” في الرياض وعواصم اخرى لاستمزاج توجهاتهم ومؤكدين له الاستجابة للدعوة الاميركية. المسألة عينها طغت على كثير من المسائل الهامة، بعد التيقن من عدم حضور الملك سلمان، وسارعت الادارة لاستيعاب تداعياتها بشن حملة اعلامية مكثفة على اعلى المستويات لتأكيد الثوابت في العلاقة “التاريخية” مع المملكة السعودية.
بل اعتقد البعض ان غياب (الملك سلمان) كان مفيدا، كما جاء على لسان الخبير الاستراتيجي الاميركي، انثوني كوردسمان، بقوله “ان حقيقة عدم حضور الملك (سلمان) اثبتت في المحصلة انها اكثر فائدة” نظرا للرسالة الكامنة بين طياتها بأنه “يتعين على كافة الاطراف والدول (ادراك) انها بحاجة لبذل جهود اكبر للتعاون بغية ارساء توجه مشترك (لتحديات) الأمن، والتعامل مع ايران، والتوصل الى حلول شاملة “للحروب الفاشلة” في اليمن وسورية والعراق.”
حصيلة المؤتمر
ان تقييم دقيق لنتائج المؤتمر ينبغي ان يستند الى مرحلة التمهيد والتدقيق في تصريحات المشاركين ورفع سقف مطالب البعض، للاستفادة الاعلامية على الاقل. نصائح الدوائر الاميركية المختلفة، قبل انعقاد المؤتمر، شددت على ضرورة ادراك دول الخليج التحولات الهامة في الاقليم، في المدى المنظور على الاقل. يومية “فورين بوليسي” الرصينة والمقربة من البيت الابيض، 12 أيار، طالبت الدول الخليجية بصريح العبارة “ادراك ان هدف الولايات المتحدة في منطقة الخليج هو الحفاظ على توازن القوى الاقليمية وليس تمكين (دول الخليج) من النصر في صراعها مع ايران.”
كما التزمت ذات اللغة الصريحة فيما يتعلق بالرئيس اوباما الذي “يتعين (عليه) مطالبة قادة دول الخليج انتهاج سلوك أكثر مسؤولية وابداء مزيد من التعاون بدلاً من طمأنتهم مجدداً بشأن الالتزام الأمريكي الدائم تجاه أمنهم.” واعربت عن توقعاتها بأن “تنصت الولايات المتحدة لمخاوف دول الخليج حول ايران، بيد انها ستوضح لها بكل وضوح وجلاء انها ليس بصدد ابرام اتفاقية دفاع جديدة مع مجلس التعاون ولا (بصدد) توفير ضمانات أمنية شاملة.”
في حال قمة كامب ديفيد جاء البيان الختامي المشترك “صادما” لتوقعات الضيوف ووُصِفت حال دول الخليج بانها “تعود الى ديارها خالية الوفاض،” وفق تعبير يومية “بوليتيكو،” 15 أيار. واوضحت اليومية ان “تأكيد جميع الأطراف بسير اعمال المؤتمر على ما يرام، (يدل) على أن القمة لم تحرز أي نجاحات كبرى .. ولكن من الواضح أن الخلافات الجوهرية (بين الجانبين) لا تزال قائمة.”
اما كوردسمان، الذي يتابع الشؤون الخليجية العسكرية ويحافظ على علاقة وثيقة بمشيخات الخليج عامة، لا سيما مع الامارات، سعى الى تلطيف الاخفاق قائلا “بالنسبة لدول مجلس التعاون، اثبتت القمة ان الولايات المتحدة هي حليف استراتيجي ذو دلالة لكنها ليست في وارد ان تلعب دور الجواب السحري لفشل الدول العربية، او لكل ازمة أمنية في الاقليم، او (التوسط) للانقسامات داخل مجلس التعاون والعالم العربي.”
وذهب كوردسمان الى الاشادة بدور عُمان “وابتعادها عن دول المجلس الأخرى، (كما ان) قطر اثبتت انها ادنى من معدل صقور النظامين السعودي والبحريني، لكنه ليس من الثابت بعد ان القيادات المتعددة في دولة الامارات استطاعت التوصل الى اجماع واضح بين بعضها البعض، وفيما يخص العلاقة مع السعودية.”
كما حظيت عُمان باشادة ورضى يومية “بوليتيكو” لاقامتها علاقات ودية مع كافة الاطراف “بما فيها ايران. اما دولة الامارات – لا سيما امارة دبي – تجني فوائد كبيرة من الاستثمارات الايرانية ..”
مؤسسة راند، بالغة التأثير في صنع القرار السياسي، اعتبرت الاتفاق النووي مع ايران المسألة الجوهرية بين الجانبين، والذي عند ابرامه “سيشكل فرصة لتخفيف التصعيد (بين ايران والسعودية)، عوضا عن السياسة الصفرية لتسيّد المنطقة من قبل السعودية وايران.”
واوضحت مأزق السعودية في الاقليم بان احد جوانبه يشمل عدم قدرتها على تجنيد اي من الدول الاقليمية – باستثناء اسرائيل – لجانبها.”
تجدر الاشارة في هذا الصدد الى انتشار حجم التعاون بين السعودية و”اسرائيل،” تداولتها وسائل الاعلام الاميركية، قبيل انعقاد قمة كامب ديفيد تشير الى “تلقي اسرائيل هدية مالية من الرياض بلغت 16 مليار دولار” للانفاق على جهود الضغط على سياسة الادارة الاميركية “بيد ان بعض تلك الاموال وجد طريقها في بناء المستوطنات غير الشرعية في الاراضي المحتلة.” كما ان اول قاعدة عسكرية اميركية في الاراضي العربية انشأت في الظهران، شرقي الجزيرة العربية.
بماذا تعهد اوباما
حسم اوباما المسألة دون اي اشارات مبهمة في مؤتمره المشترك عقب انفضاض المؤتمر قائلا “إنني أؤكد مجددا التزامنا الصارم بأمن شركائنا الخليجيين،” معربا عن استعداده لاستخدام القوة العسكرية الاميركية للدفاع عنهم “ضد اي هجوم خارجي يتعرضون له.” لم يذهب اوباما ابعد من ذلك بل اعلن بدء اجراءات وترتيبات “متواضعة” مع دول المجلس تشمل اقامة مناورات عسكرية مشتركة ترمي لتحقيق التكامل بين انظمة الدفاع الصاروخية المتعددة لدى الترسانة الخليجية، وتعزيز أمن الشبكات الالكترونية وضمان حرية الملاحة العالمية ومكافحة الارهاب.
مساعد اوباما لشؤون الأمن القومي، بن رودس، اكد “التزام واشنطن بالا تتطور الامور الى مرحلة سباق تسلح نووي في الشرق الاوسط،” واضعا بذلك حدا فاصلا لتصريحات الامير السعودي تركي الفيصل المتعددة بعزم بلاده اقتناء الطاقة النووية، والذي “ربما حفزه نتنياهو لاحراج اوباما،” كما وصفته صحيفة “نيويورك تايمز.”
كوردسمان، مرة اخرى، اعتبر ما حققته الدول الخليجية “فيما يتعلق بايران لا يتعدى مجموعة عامة من الضمانات الاميركية، مقابل تأييد واسع النطاق” لاتفاق نووي مع ايران.
بعبارة اخرى، حققت دول مجلس التعاون الخليجي بقيادة المملكة السعودية التزاما اميركيا لفظيا يتلخص بمفردة “سوف:” سوف تدرس اميركا استخدام القوة العسكرية .. الخ. اما اعلان اجراء المناورات الموسعة مع دول الخليج فقد وصفتها البنتاغون بانها “ستكون الاضخم من حيث نوعيتها منذ عقود .. وما زالت قيد البحث ولم يتحدد موعدها بعد.”
خيبة كبيرة في الملفات الخلافية
ادركت دول الخليج، متأخرة، ان مفهوم “الشراكة الاستراتيجية بين دول مجلس التعاون والولايات المتحدة” لا يعادل “اتفاق استراتيجي” روجت له طويلا واخفقت في حث الجانب الاميركي رفع سقف الشراكة الى مستويات ارقى على الرغم من “توحيد” مصادر ترسانات السلاح الخليجية. اما الملفات الساخنة في الاقليم، ايران وسورية واليمن، وبدرجة اقل ليبيا، فلم يفلح قادة الخليج في التأثير على الموقف الاميركي الداعي للالتزام “بالحل السلمي والتفاوضي،” رغم انقضاء سنوات دامية اربعة على اعتماد الحل العسكري دون جدوى.
ايران
مراكز القرار السياسي الاميركي تجزم ان لدى ايران رغبة حقيقية في تحسين علاقاتها مع الولايات المتحدة، وان بشكل تدريجي، الأمر الذي يتطلب “احتواء التوترات الراهنة والحيلولة دون نشوب ازمات اخرى.” وتردد مرارا في وسائل الاعلام ان ايران “تستخدم جولة المفاوضات النووية كمحطة لاختبار تجاوب ومدى صدقية الطرف الآخر.”
ربما لم تلتفت دول الخليج الى التحولات الاستراتيجية الاميركية فيما يخص ايران تحديدا، اذ تبين ان لدى البيت الابيض خطة معدة “لاحتواء ايران،” وبدء عهد جديد معها. قائد هيئة الاركان الاميركية السابق، مايك مولن، اوضح في مقال له، بوليتيكو 16 نيسان 2015، ان الاتفاق النووي المزمع “من شأنه ان يعيد التوازن للنفوذ الاميركي (في المنطقة) .. سياسة الانفراج مع ايران قد تسهم ايجابا في موازنة جهودنا المبذولة على اتساع خارطة الانقسام الطائفي.” وكأنه يقول نيابة عن الادارة الاميركية ان حلفاءها الاقليميين عازمون على دفع واشنطن لصدام مستدام مع ايران، محذرا في الوقت نفسه من سطحية الخيار العسكري الذي “لن يوقف المسار النووي لايران، بل يبطيء سير حركته بعض الشيء.”
السفير الاميركي الاسبق لدى الرياض، روبرت جوردان، ذكر اصدقاءه في الخليج ان “تحول السياسة الاميركية باتجاه آسيا” لا يعني بالضرورة “تخليها عنهم ابان وقوع ازمات.” واعرب جوردان عن شكوكه وقلق اصدقائه من فعالية “بسط اميركا مظلتها الأمنية لتشمل منطقة الخليج .. الذي يعد الانجاز الأهم لقمة (كامب ديفيد)، وربما هي قفزة بعيدة المنال.”
الرئيس اوباما لم يشأ استمرار الغموض حول سياسته الايرانية، اذ قال في ختام قمة كامب ديفيد بحضور ضيوفه الخليجيين انه “يرحب بايران التي من الممكن ان تلعب دوراً مسؤولاً في الاقليم .. والتي باستطاعتها اتخاذ خطوات عملية ملموسة لبناء الثقة وحل خلافاتها مع جيرانها بالسبل السلمية والامتثال للقواعد والاعراف الدولية.”
استدارة الاستراتيجية الاميركية، او اعادة توازنها كما يحلو للبعض، جاءت ثمرة جهود مراجعة مضنية داخل اوساط المؤسسة الحاكمة، كما يوحي بذلك مايك مولينز وآخرين. وخلصت المراجعة الى ان السياسة الاميركية تعاني من مآزق ثلاثة: تداعيات الحرب غير المشروعة في العراق؛ ميثاق توفير الحماية الأمنية للملكة السعودية مقابل تدفق النفط؛ وعدم القدرة على محاسبة “اسرائيل،” كما ورد في الأصل. اذ ساهمت كلها مجتمعة في الحد بشدة من النفوذ الاميركي في الشرق الاوسط.
رسالة اوباما لدول الخليج وغيرها كانت قاطعة الوضوح في البعد الاستراتيجي لناحية ان بلاده تسعى لعدم امساك قوة اقليمية بمفردها زمام الهيمنة السياسية والاقتصادية او العسكرية على باقي المنطقة. بعبارة اخرى اعرب عن جهوزية الولايات المتحدة، في مرحلة استدارتها، الى العمل مع كافة القوى والاطراف لأجل تخفيض حدة التهديدات الأمنية، على الرغم من تباين مصالح القوى كافة.
لا يخفى على المرء والمراقب معا ما يضمره الرئيس اوباما من استغلال اجواء قمة كامب ديفيد لحساباته السياسية الخاصة، لا سيما بعد تمكنه من ترويض “تحفظات الخليجيين،” والتصدي لخصومه الجمهوريين بعزيمة اكبر بعد اطمئنانه لدعم دولي لجهوده، لا سيما من دول الخليج، وتعزيز فرص انتصاره التوصل لاتفاق نهائي مع ايران.
سورية
جاء البيان المشترك ليعبر عن الموقف الاميركي الذي “استدار وتخلى” عن الحل العسكري المباشر. بالطبع هذا لا يجوز ان يقودنا للقول بأن العمليات العسكرية لتدمير الدولة السورية قد انتهت، بل اضحت اكثر كلفة لمشغليها. ورغم الاشارة الى ان الرئيس “الاسد لن يكون له دور في صياغة مستقبل سورية،” كما تردد دول الخليج، الا ان البيان المشترك اكد على “التزام القادة باستمرار العمل للتوصل الى حل سياسي مستدام في سورية يضع حدا للحرب ويؤسس لبروز حكومة تشمل الجميع ..”
الخبير الاستراتيجي كوردسمان انتقد الاستراتيجية الاميركية “لفقدانها وضوح الهدف ابعد من ثمة قصف مدفعي متفرق .. ووعد بتدريب نحو 15،000 عنصر من المتمردين.” واضاف انه “من غير المرجح ان تفضي مساعي الولايات المتحدة او جهود دول مجلس التعاون الى بلورة استقرار دائم او توفير الأمن” في سورية.
اليمن
تبلور اجماع لدى معظم الاوساط والمؤسسات الاميركية الفاعلة بأن العدوان السعودي على اليمن يراوح مكانه، كما ان “الولايات المتحدة والسعودية ودول الخليج الاخرى لا تتوفر لديها اجابات واضحة لحسم المعركة بالقوة العسكرية.”
تتزايد مساعي مستشاري الرئيس اوباما، في هذا الشأن، للدلالة على عدم نضوج ظروف الحسم بالوسائل العسكرية، بعد انقضاء ما ينوف عن الشهر من القصف السعودي المركز؛ وايضا “لخشية السعودية من عدم استمرار تأييد بعض دول المجلس لمخططاتها” هناك.
وحذر بعضهم من ان اليمن تشكل “عبءاً كبيراً ليس باستطاعة السعودية تحمله، فضلا عن عدم توفر الدعم المحلي للادارة الاميركية” الانخراط المباشر لتعديل ميزان القوى لصالحها هناك.
الاجماع الاكبر لدى “المستشارين” والمراقبين على السواء ان محادثات مؤتمر القمة “لم تسفر عن تبلور اي تقدم حقيقي حتى في بعد المحظور من التداول.” ووصفت يومية “فورين بوليسي،” 12 ايار، المحادثات بانها عكست “تباين مصالح دول الخليج عن المصالح الاميركية بشكل متزايد حول قضايا ايران وسورية ..”
محصلة الأمر ان نتائج العدوان لن تسفر عن بروز طرف منتصر، بل من المستبعد ان تستطيع المملكة السعودية اخضاع اليمن لمشيئتها بعد اليوم.