خطة أميركية لعشر سنوات من الحرب العالمية الباردة تقرير معهد ستراتفور: توقعات العقد 2015- 2025
يقوم موقع ستراتفور بإصدار توقعات دورية كل خمس سنوات منذ العام 1996 (1996 و2000 و 2005 و 2010 والآن 2015)، وهنا توقعات لمجريات أحداث العقد الخامس من ستراتفور.
لقد توقعنا عدم تمكن أوروبا من الخروج من أزماتها الاقتصادية وسقوط الصين وكذلك توقعنا الحرب بين الولايات المتحدة والحركات الجهادية. لكننا أخطأنا في بعض التوقعات. فنحن لم نتوقع أحداث 11 سبتمبر/أيلول، والأكثر من ذلك أننا لم نتوقع ردة الفعل الأمريكية على الأحداث.
في العام 2005 توقعنا ان تواجه الولايات المتحدة بعض الصعوبات، وكذلك حاجتها للانسحاب العسكري من العالم الإسلامي. كما توقعنا تراجع الصين في وقت مبكر جدًا، في الوقت الذي توقع فيه اخرون صعودها اقتصاديًا لتتفوق على الولايات المتحدة. وقبل كل شيء؛ فقد توقعنا صمود قوة الولايات المتحدة. وهذه التوقعات غير قائمة على الوطنية أو الشوفينية. بل إنها توقعات نابعة من نموذجنا لرؤية الولايات المتحدة كقوة بارزة.
نحن لا نتوقع كل شيء. انما نركز على التوجهات الرئيسية في العالم. وهكذا؛ فإننا في هذا التقرير نسرد بعض التوقعات مما أسلفنا توقعه في العام 2010.
نرى ان الحرب الأمريكية الجهادية تخمد جذوتها. ولا يعني هذا أن التسلح الإسلامي سوف ينتهي إلى غير رجعة، كما أن الهجمات سوف تستمر وقد ينجح بعضها. إلى جانب ذلك فإن الحربين الرئيسيتين في المنطقة سوف تخمدان بشكل دراماتيكي إن لم ينتهيا بحلول العام 2020، كما نرى الوضع الإيراني قد أصبح أقرب إلى كونه تحت السيطرة. سواء كان هذا من خلال العمل العسكري وعزل إيران أو من خلال التفاهمات السياسية مع النظام الحالي أو الذي سيأتي بعده وهذا أمر غير واضح وغير ذي صلة بالقضية الجغرافية السياسية، سوف يتم احتواء إيران – بكل بساطة – فهي لا تملك قوة كافية لأن تصبح لاعبا رئيسا في المنطقة أكثر مما هي عليه في الوقت الحالي.
تنوع النظم والتركيبات السكانية التي تشهدها أوروبا سوف يضع مؤسسات الاتحاد الأوروبي تحت ضغط شديد. ونتوقع أن تبقي المؤسسات نشاطها المعتاد. ولكن الشكوك تساورنا بشأن عمل هذه المؤسسات بشكل كبير.
التوجه السياسي الرئيسي سوف يبتعد عن الحلول متعددة الجنسيات ليميل اكثر نحو القومية المدفوعة بالتباينات الاقتصادية والقوى الثقافية والاجتماعية. فالنخب التي شكلت الاتحاد الأوروبي سوف تجد نفسها تحت طائلة الضغوط المتزايدة من الشعوب. التوتر بين المصالح الاقتصادية والاستقرار الثقافي سيعيد تشكيل أوروبا. وبناءً على ذلك العلاقات الأوروبية – الأوروبية ستكون في وضع غير مستقر ولا يمكن التكهن بها.
روسيا ستحاول في العقد 2010 تأمين نفسها قبل أن يضربها التراجع الديموغرافي. وسوف تقوم بذلك من خلال محاولة الانتقال من صادرات السلع الأساسية إلى معالجة الصادرات السلعية والارتقاء بسلسلة القيم من أجل تحصين اقتصادها في الوقت الذي لا تزال تركيبتها السكانية تسمح لها بذلك. وستحاول روسيا في الوقت نفسه أن تعيد دمج الجمهوريات السوفيتية السابقة بأي شكل من الاشكال من أجل تأجيل مشكلاتها الديموغرافية، وتوسع سوقها، قد تعيد استيعاب بعض مواردها الإقليمية.
على كل حال خلال العقد 2010 اثارت أفعال روسيا قلق جيرانها على صعيد الأمن القومي، وكذلك التحول السريع في السياسات الاقتصادية.
الدول الأكثر اهتمامًا – وتأثرًا – ستكون الدول التابعة لأوروبا الوسطى. إن الاهتمام الأساسي لروسيا لا يزال السهل الأوروبي الشمالي، الذي يُعد طريق الغزو التقليدي لروسيا. وسوف يعظم التركيز مع كون أوروبا أصبحت غير متوقعة سياسيا. إن الضغط الروسي على أوروبا الوسطى لن يكون ضغطًا عسكريًا شاملا. إننا نؤمن أن هذا الضغط المستمر والمتزايد سوف يُحفّز التطور الاقتصادي والاجتماعي والعسكري في أوروبا الوسطى.
على الجانب الأمريكي، هذا العقد سيشهد زيادة – على المدى الطويل – في القوة الاقتصادية والعسكرية التي بدأت منذ أكثر من قرن من الزمان. ولا تزال الولايات المتحدة القوة العسكرية المُهيمنة على مستوى العالم، وتنتج 25٪ من ثروة العالم كل عام، ولكنها ليست قادرة على فعل كل شيء.
العقد القادم
دخل العالم في مرحلة إعادة هيكلة الذات منذ العام 2008، عندما غزت روسيا جورجيا ووقعت الأزمة المالية الخطيرة. لقد برزت ثلاثة أنماط، أولاً: دخل الاتحاد الأوروبي في أزمة تفاقمت حدتها ولم يكن لها حل. ومن المتوقع ألا يعود الاتحاد الأوروبي إلى وحدته التي كان عليها في السابق، وإذا قُدّر له البقاء على قيد الحياة فإنه سيعمل وفق آلية محدودة ومجزأة في العقد المقبل، ومن غير المتوقع أن تستمر منطقة التجارة الحرة في العمل دون رفع مستوى الحماية الاقتصادية، ويتوقع أن تعاني ألمانيا انتكاسات اقتصادية حادة في العقد المقبل، أما بولندا فستعمل على زيادة قوتها الإقليمية نتيجة لذلك.
وتظل المواجهة الحالية لروسيا مع أوكرانيا محور النظام الدولي خلال السنوات القليلة المقبلة، لكننا لا نعتقد أن الاتحاد الروسي يمكن أن يبقى شكله الحالي لعقد كامل. اعتمادها البالغ على صادرات الطاقة وعدم موثوقية التوقعات بشأن تحديد الأسعار يجعل من المستحيل لموسكو الحفاظ على العلاقات المؤسسية عبر رقعة واسعة من الاتحاد الروسي. ونتوقع تراجع سلطة موسكو بشكل كبير، ما سيؤدي إلى تفتيت رسمي وغير رسمي لروسيا. وسوف يصبح أمن الترسانة النووية الروسية مصدر قلق رئيسي في الوقت الذي ستُسرع فيه وتيرة هذه العملية في وقت لاحق خلال العقد.
لقد دخلنا فترة تتسارع فيها سقوط الدول القومية التي أنشأتها أوروبا في شمال إفريقيا والشرق الأوسط. فالسلطة لم تعد في قبضة الدولة في العديد من البلدان بعد أن آلت الأوضاع إلى يد الفصائل المسلحة. وقد تسبب هذا في فترة من الاقتتال الداخلي المكثف. وتستعد الولايات المتحدة لتخفيف الوضع من خلال القوة الجوية وقوات محدودة على الأرض، لكنها لن تكون قادرة أو مستعدة لفرض تسوية. تركيا – التي أصبحت حدودها الجنوبية عُرضة للخطر نتيجة القتال -سوف يتم سحبها إلى القتال ببطء. وبحلول نهاية هذا العقد؛ فإن تركيا ستظهر كقوة إقليمية كبرى، وستزداد المنافسة التركية الإيرانية نتيجة لذلك.
أما الصين فقد أكملت دورتها كدولة مرتفعة النمو وبلد ذات أجور منخفضة، ودخلت مرحلة جديدة، وهذا هو الوضع الطبيعي الجديد. وتشمل هذه المرحلة نموًا أبطأ بكثير وديكتاتورية متزايدة بشكل بالغ لاحتواء القوى المتباينة التي أنشأها النمو البطيء. وسوف تستمر الصين في تبني خطوات تجعل منها قوة اقتصادية كبرى، ولكنها لن تكون المحرك الديناميكي للنمو العالمي كما كانت في وقت سابق. وسيقتنص هذا الدور مجموعة مختلفة من الدول التي نطلق عليها مجموعة الــ 16 لما بعد الصين، والتي تشمل الكثير من جنوب شرق آسيا وشرق إفريقيا وأجزاء من أمريكا اللاتينية. كما لن تكون الصين قوة عسكرية عدوانية أيضًا. وستبقى اليابان المرشح الأكثر ترجيحًا لمنصب المهيمن في شرق آسيا، بسبب جغرافيتها واحتياجاتها على اعتبار أنها مستورد على نطاق واسع.
وستواصل الولايات المتحدة الحفاظ على موقعها كقوة اقتصادية وسياسية وعسكرية كبرى في العالم، ولكنها ستكون أقل انخراطًا مما كان في الماضي. انخفاض معدل صادراتها وزيادة الاعتماد على الذات في مجال الطاقة وخبراتها على مدى العقد الماضي سيجعلها حذرة بشكل متزايد بشأن أي تورط اقتصادي وعسكري في العالم. لقد عرفت الولايات المتحدة ما يحدث للمُصدرين أصحاب الوزن الثقيل عندما لا يقوم العملاء أو حتى لا يستطيعون شراء منتجاتهم. كما عرفت أن أمريكا الشمالية ساحة يمكن لواشنطن أن تزدهر فيها من خلال تعاقدات انتقائية في مكان آخر. وسوف تواجه تهديدات استراتيجية رئيسية من قوة نسبية، لكنها لن تلعب دور المستجيب الأول كما حدث في السنوات الأخيرة.
باختصار، سيكون عالمًا تُميزه الفوضى والاضطراب. الثابت الوحيد هو قوة الولايات المتحدة المستمرة والناضجة دوما، وهي القوة التي لن يتم تركيز الضوء عليها كما كان في السابق، حيث سيتم استخدامها في العقد المقبل أقل بكثير من العقد المنصرم.
أوروبا
سيكون الاتحاد الأوروبي قادرا على حل مشكلته الأساسية، وهي ليست منطقة اليورو، ولكن منطقة التجارة الحرة. ألمانيا مركز الثقل في الاتحاد الأوروبي؛ وهي تتصدر أكثر من 50 % من الناتج المحلي الإجمالي، الي يذهب نصفه إلى بلدان الاتحاد الأوروبي الأخرى. وقد عززت ألمانيا القدرة الإنتاجية التي تفوق بكثير قدرتها على الاستهلاك، لتحفيز الاقتصاد المحلي. وللحفاظ على النمو الاقتصادي، والعمالة الكاملة والاستقرار الاجتماعي يجب الحفاظ على نسبة العائدات. هياكل الأنظمة الأوروبية، تم تصميمها لتسهيل عملية التصدير –من ضمنها تسعير اليورو والعديد من القوانين الاوروبية-.
وقد قسمت تلك الهياكل والقوانين أوروبا بالفعل إلى قسمين على الأقل. أوروبا المتوسطة ودول مثل ألمانيا والنمسا التي لديها أنماط واحتياجات سلوكية مختلفة تماما، حيث لا توجد سياسة واحدة تتناسب مع كل أوروبا، وقد كان هذا لب المشكلة منذ البداية، لكن اوروبا وصلت الآن إلى نقطة النهاية، ففوائد جزء من أوروبا تضر بالجزء الاخر.
ارتفاع نسبة القومية إلى حد كبير، سيزيد من خوف أوكرانية وبلدان أوروبا الشرقية وستصبح اوروبا اربعة اجزاء اذا انفصلت المملكة المتحدة والدول الاسكندنافية عن بقية أوروبا. صعود الاحزاب المشككة على اليمين واليسار، سينزع الشرعية عن الأحزاب الرئيسية وسيعزز شعبية الأحزاب الانفصالية داخل البلدان الأوروبية.
وسوف تستمر هذه الاتجاهات. فالاتحاد الاوروبي قد يبقى على قيد الحياة في بعض النواحي، ولكن ستحكم العلاقات الاقتصادية والسياسية والعسكرية الأوروبية في المقام الأول من خلال العلاقات الثنائية أو متعددة الأطراف التي من شأنها أن تكون محدودة النطاق وغير ملزمة. بعض الدول قد تحافظ على عضويتها المتبقية في الاتحاد الأوروبي المعدل.
ما سيميز أوروبا في العقد القادم هو عودة ظهور الدولة القومية باعتبارها وسيلة سياسية أولية للقارة. والواقع أن عددا من الدول القومية من المرجح أن يزيد تحركاته المختلفة لصالح الانفصال، أو تفكك الدول إلى أجزاء، وزيادة قوتها. وسيكون هذا ملحوظا بشكل خاص خلال السنوات القليلة المقبلة، وسوف تكثف الضغوط الاقتصادية والسياسية وسط أزمة أوروبية.
وقد برزت ألمانيا من بين الدول القومية باعتبارها الحليف الأكثر تأثيرا اقتصاديا وسياسيا. ألمانيا هي اكثر الدول عرضة للتأثر وهي الرابعة اقتصاديا بين القوى الاقتصادية الأكبر في العالم، وقد حققت هذا المركز من خلال الاعتماد على الصادرات، وهي تعتمد على رغبة عملائها وقدرتهم على شراء منتجاتها. وبعبارة أخرى، الاقتصاد الألماني هو رهينة الرفاه الاقتصادي وتنافسية البيئة التي تعمل فيها.
هناك عدة عوامل تعمل ضد ألمانيا في هذا الصدد. أولا، زيادة النزعة القومية في أوروبا التي سوف تفرض شروطها على أسواق رأس المال، ومن المرجح أن تعتمد أنواع مختلفة من ضوابط رأس المال، في حين أن البلدان الأقوى سوف تحد من تنقل الأجانب – بما في ذلك مواطني دول الاتحاد الأوروبي الأخرى – عبر حدودها. ونتوقع أن تتأثر “سياسات الحماية” الموجودة داخل الاتحاد الأوروبي، وخاصة في مجال الزراعة، في السنوات المقبلة بالحواجز التجارية التي أنشأتها أضعف الاقتصادات الأوروبية الجنوبية التي تحتاج إلى إعادة بناء قاعدتها الاقتصادية بعد الكساد الحالي. عالميا، يمكننا أن نتوقع ان تواجه الصادرات الأوروبية منافسة متزايدة والطلب سيتغير بدرجة كبيرة. لذلك، توقعاتنا هي أن تبدأ ألمانيا بالتدهور اقتصاديا وان تصل إلى أزمة اجتماعية وسياسية داخلية من شأنها الحد من نفوذها في أوروبا خلال السنوات ال 10 المقبلة.
بولندا ستنمو اقتصاديا وسوف يزداد نفوذها السياسي. وستحافظ على ملامح النمو الأكثر إثارة للإعجاب خارج ألمانيا والنمسا. وبالإضافة إلى ذلك، الانكماش السكاني سيكون على الارجح أقل بكثير مما كان عليه في البلدان الأوروبية الأخرى. وبينما تخضع ألمانيا لتحولات موجعة في الاقتصاد، ستنوع بولندا علاقاتها التجارية الخاصة وسوف تظهر كقوة مهيمنة على السهل الأوروبي الشمالي الاستراتيجي.
وعلاوة على ذلك، فإننا نتوقع ان تكون بولندا زعيمة الائتلاف المناهض لروسيا وسوف تنضم رومانيا اليها خلال النصف الأول من هذا العقد. وفي النصف الثاني سيلعب هذا التحالف دورا رئيسيا في إعادة تشكيل المناطق الحدودية الروسية واسترجاع الأراضي المفقودة من خلال الوسائل الرسمية وغير الرسمية، وفي نهاية المطاف هذا التحالف سيصبح نافذا ومهيمنا ليس فقط في روسيا البيضاء وأوكرانيا، ولكن أبعد نحو الشرق، وهذا من شأنه ان يعزز الوضع الاقتصادي والسياسي لبولندا وحلفائها.
بولندا سوف تستفيد من وجود شراكة استراتيجية مع الولايات المتحدة. كلما دخلت قوة عالمية رائدة في علاقة مع شريك استراتيجي، فهذا يكون في صالح القوة العالمية لجعل الشريك اقوى اقتصاديا ، وذلك لتحقيق الاستقرار في مجتمعه وجعله قادرا على بناء قوة عسكرية. بولندا سوف تكون في هذا الموقف مع الولايات المتحدة، وكذلك رومانيا..
روسيا
من غير المرجح أن الاتحاد الروسي سوف يبقى على قيد الحياة في شكله الحالي. فشل روسيا في تحويل عائدات الطاقة إلى اقتصاد الاكتفاء الذاتي يجعلها عرضة لتقلبات الأسعار. فهي ليس لديها وسائل دفاع امام قوة السوق، ونظرا لتنظيم الاتحاد، العائدات المتدفقة إلى موسكو قبل توزيعها مباشرة أو عن طريق الحكومات الإقليمية، تختلف بشكل كبير. وهذا سيؤدي إلى تكرار تجربة الاتحاد السوفياتي في العام 1980.في العام 1990، انخفضت قدرة موسكو على دعم البنية التحتية الوطنية، لذلك على روسيا في المستقبل الدفاع عن نفسها من خلال تشكيل كيانات مستقلة رسمية وغير رسمية، فالعلاقات الاقتصادية التي تربط بين المحيط الروسي وموسكو سوف تكون مهترئة.
تاريخيا، حل الروس هذه المشاكل عن طريق الشرطة السرية – “الكي جي بي” وخليفتها، جهاز الأمن الفيدرالي (FSB) ” ولكن مثلما حصل في العام 1980، الشرطة السرية لم تكن قادرة على احتواء “القوى النابذة” التي ستسحب الى المناطق البعيدة عن موسكو هذا العقد. وفي هذه الحالة، سيتم إضعاف قوة “ FSB “من خلال مشاركتها القيادة في الاقتصاد الوطني. ومع تعثر الاقتصاد، الاتحاد الروسي سيكون بمنأى عن ما يحصل.
بالنسبة لروسيا، بولندا والمجر ورومانيا تسعى لاستعادة المناطق التي خسرتها أمام الروس في نقاط مختلفة. وسوف تعمل على جلب روسيا البيضاء وأوكرانيا إلى هذه الحظيرة. في الجنوب، قدرة الروس على مواصلة السيطرة على شمال القوقاز تتبخر، والاستقرار في آسيا الوسطى سوف يتزعزع. في شمال غرب البلاد، منطقة كاريليا سوف تسعى للانضمام الى فنلندا. في الشرق الأقصى، المناطق البحرية ستكون مرتبطة بشكل وثيق بالصين واليابان والولايات المتحدة وموسكو سوف تتحرك بشكل مستقل. مناطق اخرى خارج موسكو لن تسعى بالضرورة الى الحكم الذاتي ولكن سوف يكون لديها هذا التوجه. وهذه هي النقطة: لن تكون هناك انتفاضة ضد موسكو، ولكن قدرة موسكو على الدعم والسيطرة في الاتحاد الروسي ستترك فراغا. هذا الفراغ سيكون له بعض الشظايا الفردية التي تصل للاتحاد الروسي.
هذا الوضع سيخلق أكبر أزمة في العقد المقبل، روسيا هي موقع قوة نووية ضخمة موزعة في جميع أنحاء المناطق النائية. تراجع قوة موسكو سيفتح مسألة من سيسيطر على هذه الصواريخ وكيف يمكن ضمان عدم استخدامها من قبلها روسيا. وسيكون هذا اختبارا رئيسيا للولايات المتحدة. واشنطن هي القوة الوحيدة القادرة على معالجة هذه المسألة، لكنها لن تكون قادرة على السيطرة على أعداد كبيرة من المواقع العسكرية وضمان عدم إطلاق أي صاروخ في هذه العملية.
على الولايات المتحدة إما أن تخترع حلا عسكريا يصعب تصوره الآن، او القبول بالتهديدات، أو محاولة إنشاء حكومة مستقرة قابلة للحياة اقتصاديا في المناطق المعنية لتحييد الصواريخ على مر الزمن. فمن الصعب أن نتصور كيف سيكون تأثير هذه المشكلة على الخارج.
القضية في النصف الأول من العقد ستكون في التحالف الذي سيمتد بين بحر البلطيق والبحر الأسود. ليصل إلى أذربيجان وبحر قزوين.
الشرق الأوسط وشمال إفريقيا
تشهد منطقة الشرق الأوسط – وخاصة المنطقة الواقعة بين بلاد الشام وإيران جنبًا إلى جنب مع شمال إفريقيا – انهيارات محلية. ونعني بهذا أن الدول القومية التي أقامتها القوى الأوروبية في القرنين الـ19 والـ20 تتفتت إلى فصائل على أساس العصبية أو الدين أو تحول المصالح الاقتصادية. في بلدان مثل ليبيا وسوريا والعراق شهدنا انتقالاً من الدولة القومية إلى فصائل تحارب بعضها البعض وتتحرك عبر حدود تلك الدول.
تسير هذه العملية على خطى نموذج لبنان في فترة السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي عندما توقفت الحكومة المركزية عن العمل وذهبت السلطة إلى الفصائل المتحاربة. ولم تتمكن الفصائل الرئيسية من هزيمة الآخرين، كما لم يستطع أحد هزيمتها. لقد تم التلاعب بها ودعمها من الخارج، فضلاً عن الدعم الذاتي. وتحول الصراع بين هذه الفصائل إلى حرب أهلية سكتت لكنها لم تنته. فراغ السلطة في جميع أنحاء المنطقة، منح الجماعات الجهادية مساحة للعمل.
لا يمكن القضاء على هذا الوضع من قبل القوى الخارجية. مقدار القوة المطلوبة يفوق قدرة الولايات المتحدة حتى لو توسعت بشكل كبير. وبالنظر إلى الوضع العالمي – وخاصة في روسيا – فان على الولايات المتحدة عدم التركيز على هذه المنطقة فقط.
وفي الوقت ذاته يمثل هذا التطور – خاصة في الدول العربية إلى جنوب تركيا – تهديدًا للاستقرار الإقليمي. وتعمل الولايات المتحدة على التخفيف من خطر فصائل معينة. ولكن الولايات المتحدة لن تنشر قوات متعددة الجنسيات في المنطقة. ففي هذه المرحلة، معظم البلدان في المنطقة لا تزال تتوقع ان تكون الولايات المتحدة هي القوة الحاسمة على الرغم من فشلها في هذا الدور خلال العقد الماضي.
وكما يكشف الواقع بشكل بطيء، فإن هناك دولة واحدة فقط لها مصلحة في تحقيق الاستقرار في سوريا والعراق، لكنها غير قادرة على العمل على نطاق واسع – مرة أخرى بسبب موقعها الجغرافي – ولديها وسائل قليلة لتحقيق النجاح في المنطقة. هذا البلد هو تركيا. ففي هذه المرحلة؛ تركيا محاطة بالصراعات من الجانب العربي ومن القوقاز وحوض البحر الأسود. ولكن تركيا تجنبت المغامرة والمخاطرة حتى الآن.
تركيا تستطيع المضي قدمًا بدون الحاجة إلى التدخل الأمريكي لأسباب سياسية وعسكرية. وستضطر الولايات المتحدة للتدخل، ولكن سيكون هناك ثمن. ولا تتوقع الولايات المتحدة أن تتولى تركيا دورًا قتاليًا في حربها لاحتواء روسيا كما أنها لا ترغب بذلك لنفسها. ومع ذلك؛ فإنها تريد درجة من التعاون في إدارة البحر الأسود. ولن تكون تركيا جاهزة لسياسة مُستقلة تمامًا في الشرق الأوسط، وستدفع ثمن علاقتها مع الولايات المتحدة. ويُمهد هذا السعر الطريق لتمديد خط الاحتواء إلى جورجيا وأذربيجان.
نتوقع استمرار حالة عدم الاستقرار في العالم العربي طيلة عقد من الزمن. كما نتوقع انجرار تركيا إلى الحرب في الجنوب، وبقدر مخاوفها من القتال الا إنها ستجد نفسها مضطرة للتورط والمشاركة. وسوف تدخل بأقل قدر ممكن لكنها في النهاية ستتدخل، وسوف يزداد تدخلها في نهاية المطاف كمًا وكيفًا. ومهما كان ترددها، فإن تركيا لا يمكن أن تصمد أمام سنوات من الفوضى عبر حدودها، ولن يكون هناك بلد آخر يتطوع ليحمل عنها العبء. وإيران ليست في وضع من الناحية الجغرافية أو العسكرية – يجعلها تقوم بهذه الوظيفة، وأيضًا المملكة العربية السعودية. ومن المرجح أن تحاول تركيا بناء تحالفات من خلال وصولها في نهاية المطاف إلى شمال أفريقيا لتحقيق استقرار الوضع. وستنمو المنافسة التركية – الإيرانية مع مرور الوقت، ولكن تبقى خيارات تركيا مفتوحة للعمل مع كل من إيران والمملكة العربية السعودية حسب الحاجة. ومهما كانت الديناميكية، فإن تركيا سوف تكون في قلبها.
لن تكون تلك هي المنطقة الوحيدة التي تلفت انتباه تركيا. وفي الوقت الذي ستضعف فيه روسيا، فإن التأثير الأوروبي سوف يمتد ببطء باتجاه الشرق صوب المناطق التي لديها مصالح تاريخية مع تركيا، مثل الشاطئ الشمالي للبحر الأسود. ويمكننا أن نتوقع تخطيط تركيا لتوجيه قوتها شمالاً – تجاريًا وسياسيًا – ومن المحتمل أن تكون عسكرية في بعض الأحيان. وفي الوقت الذي ستضعف فيه بقايا الاتحاد الأوروبي والاقتصادات الفردية، فإن بعض الدول ستتجه نحو الشرق، وسوف تزيد تركيا من تواجدها في منطقة البلقان باعتبارها القوة الوحيدة الباقية القادرة على القيام بذلك.
وقبل أن يحدث ذلك ينبغي على تركيا إيجاد توازن سياسي داخلي. إنها دولة علمانية ومسلمة. وحاولت الحكومة الحالية سد الفجوة، ولكنها في نواح كثيرة تبتعد عن العلمانيين الذين هم الاغلبية. هناك حكومة جديدة بالتأكيد ستظهر خلال السنوات القادمة. وهذا هو خط الصدع الدائم في تركيا المعاصرة. مثلها مثل العديد من البلدان، فإن قوتها سوف تتمدد في ظل حالة من عدم اليقين السياسي. إلى جانب هذا الصراع السياسي الداخلي، فإن الجيش والمخابرات والسلك الدبلوماسي بحاجة إلى تطوير حجمها ومهامها خلال العقد المقبل. ومع ذلك، فإننا نتوقع أن نرى تسارعًا في وتيرة ظهور تركيا كقوة إقليمية كبرى في السنوات الــ 10 المقبلة.
شرق آسيا
الاقتصاد الصيني انتقل من مرحلة الاقتصاد السريع الرخيص، إلى مراحل أكثر تطورا وأبطأ في النمو، كما جرى مع اليابان من قبله، حيث سجل نموها الاقتصادي العام الماضي أقل معدل له منذ العام 1990، إذ أصبحت تكاليف الاستثمارات مرتفعة نظرًا لارتفاع الرواتب وصعود طبقة وسطى ضخمة ذات تطلعات أكبر، وهو نمط طبيعي بالنظر لآليات تطور الرأسمالية الذي شهدته كافة البلدان التي سبقت الصين.
المشكلة بالنسبة للصين في العقد المقبل هي العواقب السياسية والاجتماعية لهذا التحول. إذ إن المناطق الساحلية الأغنى في الصين طالما اعتمدت على معدلات النمو والإنتاج المرتفعة، والتبادل التجاري مع المستهلكين الأمريكيين والأوربيين، مما يعني أن هبوطها سيبرز تحديات سياسية كبيرة للنظام الصيني، وهو ما يفسر الحملة التي دشنها الحزب الشيوعي لمواجهة الفساد، واضطلاعه بدور أكبر في قمع الشركات الملوثة للبيئة بشكل غير مقبول، وهو اتجاه تسلكه بكين في الحقيقة لكبح الإنفاق المبالغ فيه، والذي لم يعد الاقتصاد الصيني قادرا على تحمله.
تنامي الميول الديكتاتورية سيزيد الاتجاه الاستبدادي للحكومة الصينية، وحملة مواجهة الفساد الأخيرة تقع في إطار سياسة جديدة تطمح إلى زيادة المركزية السياسية والاقتصادية، ومحاولة لتوحيد صناعات مثل الفحم والحديد التي شهدت نوعا من الانقسام والتفتت نتيجة السياسيات الرأسمالية التي تطبقها الحكومة في العقود الماضية، وهو توجه ستحاول بكين تطبيقه بحذر لكيلا تخلق معارضة لها بين ولايات الساحل الغنية، وقد تحاول بكين تحويل رؤوس الأموال من الساحل الشرقي إلى الداخل الغربي، لتستفيد من مساحات لم تنل ثمار النمو الاقتصادي بالكامل، وقد تستطيع الاستمرار في مرحلة الاقتصاد السريع الرخيص لفترة أطول.
ستحاول بكين تطعيم خطابها “الإصلاحي” الجديد، والهادف نحو تعزيز قوة المركز، ببعض من القومية، التي قد تعطيه شرعية وشعبية أكبر بين الصينيين، لاسيما بمواجهة اليابان، الغريم الرئيسي الذي لا يحاول فقط احتواء الصين في المحيط الهادي، ولكنه قد ينافسها أيضا حال بدأ سيناريو التصدع الروسي، حيث تعج المناطق الشرقية في روسيا بالثروات الطبيعية والإمكانيات الاقتصادية التي قد يحتاجها كلاهما لتعزيز قوته الاقتصادية وموقعه الاستراتيجي في أسيا.
ستكون القوة البحرية على وجه الخصوص عاملًا رئيسيا في الصراع بين بكين وطوكيو، نظرا لأهميتها في خلق قواعد انطلاق متحركة بعيدة عن البر، فالحرب البرية غير واردة بين الطرفين لتهديدها لاقتصاديهما، وللاقتصاد العالمي بأسره.
تعاني الصين في مجال القوة البحرية من قلة الخبرة والقيادات العسكرية المخضرمة مقارنة بالولايات المتحدة، حليف اليابان صاحب القواعد المتفرقة في المحيط الهادي، وحتى مقارنة باليابان، والتي تمتلك تاريخا بحريا طويلا نظرا لطبيعتها الجغرافية كجزيرة معزولة، وهي خبرة جمدتها اليابان على مدار سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية إثر خسارتها واعتمادها على واشنطن، ولكنها بدأت مؤخرا في الظهور بمواجهة السياسات الصينية الجديدة.
يتوقع اهتمام اليابان بقوتها العسكرية في السنوات المقبلة، خاصة وأنها تعتمد بشدة على وارداتها من الطاقة والثروات الطبيعية من جنوب شرق أسيا والخليج حيث ممرات الملاحة الاستراتيجية عالميا التي تحميها الولايات المتحدة الآن، والتي قد تتأثر جراء تراجع النفوذ الأمريكي من تلك المناطق، تاركة كل بلد ليضطلع بأمن تجارته في العالم بنفسه.
سيتصاعد الدور الصيني لأسباب سياسية واقتصادية في المحيط الهادي، وكذلك الاستعداد الياباني لاحتوائه، وستشهد المنطقة تنافسا قد يتطور لمناوشات بحرية بين الحين والآخر حول التركة الروسية بشكل خاص، ويتوقع حربًا باردة بين اليابان والصين، على غرار الحرب البادرة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، التي لم نشهد فيها أي مواجهات مباشرة بين الطرفين، بقدر ما شهدنا محاولات احتواء مستمرة، ومواجهات مباشرة ربما، في إطار المنافسة بينهما على الهيمنة في أسيا.
بشكل عام، تتطلب الرأسمالية مناطق تتمتع برواتب منخفضة ومعدلات نمو مرتفعة، وفي كل مرحلة من مراحل تطورها، كان هناك بلد كبير، أو مجموعة من البلدان الصغيرة المجتمعة، التي تؤدي هذا الدور قبل أن تنتقل إلى مرحلة أخرى في السلَّم الرأسمالي تاركة الاقتصاد السريع الرخيص لبلد آخر، حيث تبدأ نجاحات السوق في خلق تطلعات جديدة لدى طبقة وسطى متنامية، بما يؤدي إلى ارتفاع الرواتب، وتوسع الاستهلاك وقطاع الخدمات مقابل انخفاض حصة الاستثمارات الرأسمالية والصناعة.
على سبيل المثال، في ثمانينيات القرن التاسع عشر، كانت الولايات المتحدة هي المنطقة الصاعدة بسرعة والمليئة بالاستثمارات ورأس المال الجديد والمخاطِر، أما خلال العقدين الماضيَّين، فكانت الصين تقوم بهذا الدور، بعد أن حلّت محل اليابان، وهي بصدد تركه لبلدان أخرى الآن بينما تتخذ “المنعطف الياباني”، حيث تشهد حاليًا ارتفاع حصة قطاع الخدمات، وهو قطاع استهلاكي أكثر منه استثماري كما نعرف، في مقابل انخفاض وتيرة الإنفاق العالية على البناء والعقارات التي شهدتها السنوات الماضية.
وبتحوّل العملاق الصيني نحو اقتصاد استهلاكي متقدّم ونمو بطيء، وعودة الولايات المتحدة جزئيًا إلى جني ثمار مرحلة النمو السريع والرخيص – جنبًا إلى جنب مع وجودها على خريطة الاستهلاك والاقتصاد المتقدّم بالطبع – وباتجاه رأس المال الصيني بشكل أكبر إلى الخارج، بينما يزداد انكفاء نظيره الأمريكي في الداخل، وعودة اليابان كقوة بحرية، ورغبة الصين في تعزيز مكانتها السياسية والعسكرية، كيف سيؤثر كل ذلك على الولايات المتحدة، وكيف سينعكس على دورها في الخارج، لسيما في آسيا والمحيط الهادي؟ هذا ما يناقشه الجزء الأخير من التقرير.
الولايات المتحدة
تشكلالولايات المتحدة أكثر من 22 % من اقتصاد العالم. ولا تزال تهيمن على محيطات العالم وتملك قوة عسكرية كبيرة في القارات. منذ العام 1880، كان عليها التوسع بالاقتصاد والسلطة بشكل مستمر. الكساد العظيم، في وقت لاحق، سيكون ظاهرة ثانوية عابرة، هذا التوسع في الطاقة هو في مركز النظام الدولي، وتوقعاتنا تؤكد انه سيستمر بلا هوادة.
أكبر ميزة لدى الولايات المتحدة هي عزلتها. تصدر 9٪ فقط من الناتج المحلي الإجمالي، ونحو 40 % يذهب إلى كندا والمكسيك. ويتعرض حوالي 5٪ فقط من الناتج المحلي الإجمالي لتقلبات الاستهلاك العالمي. وحتى لو فقدت الولايات المتحدة نصف صادراتها بكميات غير عادية – فإن ذلك لن يكون مشكلة لا يمكن السيطرة عليها.
الولايات المتحدة تعزل نفسها أيضا عن قيود الاستيراد. خلافا لما حدث في العام 1973، عندما فرض الحظر النفطي العربي بشكل كبير على الولايات المتحدة، برزت الاخيرة كمنتج كبير للطاقة. على الرغم من أنه يجب استيراد بعض المعادن، كان يفضل استيراد بعض المنتجات الصناعية، هذا صحيح بشكل خاص حيث الإنتاج الصناعي يتزايد في الولايات المتحدة والمكسيك ردا على التكاليف المتزايدة في الصين وأماكن أخرى.
كما استفاد الأميركيون من الأزمات العالمية. الولايات المتحدة تعد ملاذا لرؤوس الأموال العالمية، ومع هروب رؤوس الأموال من الصين وأوروبا وروسيا تدفق الأموال الى الولايات المتحدة، خفض أسعار الفائدة وارتفعت أسعار أسواق الأسهم. على الرغم من تعرض أوروبا لازمة مصرفية، الا ان تدفق رؤوس الاموال يوازن هذا الانخفاض. أما بالنسبة للخوف الدائم سوف تسحب الصين أموالها من الأسواق الأمريكية، وهذا سيحدث ببطء بوتيرة تباطؤ النمو في الصين وزيادة الاستثمارات الداخلية. ولكن أي انسحاب مفاجئ هو أمر مستحيل. لا يوجد مكان آخر لاستثمار الأموال. ومن المؤكد أن العقد المقبل سيشهد تقلبات في نمو الاقتصاد الأميركي والأسواق، ولكن الولايات المتحدة ستبقى قلب النظام الدولي المستقر.
وفي الوقت نفسه، أصبح الأميركيون أقل اعتمادا على هذا النظام، والولايات المتحدة ستصبح أكثر انتقائية في تحمل المسؤوليات السياسية في العقد القادم، وأكثر انتقائية في التدخلات العسكرية.
لقرن من الزمن، كانت الولايات المتحدة تشعر بالقلق إزاء الهيمنة الاوروبية، ولا سيما العلاقة بين ألمانيا وروسيا أو الغزو المتتالية. التكنولوجيا الألمانية والموارد الروسية قادرة على تهديد المصالح الأميركية. لذلك خلال الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية والحرب الباردة، كان للولايات المتحدة دورا فعالا في منع ذلك من الحدوث.
في الحربين العالميتين، جاءت الولايات المتحدة في وقت متأخر، وعلى الرغم من أنها امتصت الخسائر أقل من بلدان اخرى. الا انها في الحرب الباردة، تدخلت في وقت مبكر، في أوروبا. وبناء على هذا، فإن الولايات المتحدة لديها واجب أساسي وتلقائي تقريبا: عندما تنشأ قوة أوروبية مهيمنة، ستسعى الولايات المتحدة في وقت مبكر، كما حصل في الحرب الباردة، لبناء تحالفات ونشر قوة كافية في مواقع دفاعية في المقام الأول.
وهذا ما يحدث الآن ضد روسيا. على الرغم من أننا نتوقع تراجعها الا انها تشكل خطرا على المدى القصير، لا سيما في الجدار الاقتصادي. علاوة على ذلك، الولايات المتحدة لا يمكن أن تثق بتراجع روسيا في وجه السياسة التوسعية الناجحة (سياسيا أو اقتصاديا أو عسكريا). ولذلك الولايات المتحدة ستحاول بناء نظام تحالف خارج الناتو، من البلطيق إلى بلغاريا، يشمل العديد من الدول. وسوف تحاول إشراك تركيا في تحالف يصل الى اذربيجان. وسوف تنشر قواتها، بما يتناسب مع التهديد، في تلك البلدان.
وسيكون هذا التركيز الأساسي في الجزء الأول من هذا العقد. في الجزء الثاني، سوف تركز واشنطن على محاولة التأكد من أن تراجع روسيا لا يؤدي إلى كارثة نووية. الولايات المتحدة لن تشارك في حل مشاكل أوروبا، فإنها لن تكون حربا مع الصين، وتورطها في الشرق الأوسط سيكون ضئيلا للغاية. وسوف تستمر في عمليات مكافحة الإرهاب العالمية ولكن سوف تفعل ذلك في ظل معرفتها التامة بأن هذه العمليات لن تكون فعالة إلا جزئيا في أحسن الأحوال.
الأمريكيون سيكون امامهم مشكلة ناشئة. الولايات المتحدة لديها دورات لمدة 50 عاما تنتهي بمشاكل اقتصادية أو اجتماعية كبيرة. بدأت الدورة الاولى في العام 1932 مع انتخاب فرانكلين روزفلت وانتهت برئاسة جيمي كارتر. بدأت مع الحاجة لإعادة بناء الطلب على المنتجات من المصانع العاطلة وانتهت في الاستهلاك المفرط ونقص الاستثمارات ومع ارتفاع معدل التضخم والبطالة. رئاسة رونالد ريغان وضعت حجر الأساس لإعادة هيكلة الصناعة الأمريكية من خلال تغيير قانون الضرائب وعن طريق تحويل التركيز من العامل الصناعي في المناطق الحضرية إلى ضواحي رجال الأعمال المهنيين.
بعد 15 عاما من نهاية هذه الدورة، الأزمة المقبلة هي نفسها ستكون في النصف الثاني من العقد المقبل. المشكلة ليست عدم المساواة. المشكلة هي في قدرة الطبقة الوسطى في العيش حياة الطبقة الوسطى. حاليا، متوسط دخل الأسرة في الولايات المتحدة حوالي 50000 دولار.
هناك سببان الاول صعود الأسرة ذات العائل الواحد، ووجود اثنين من الأسر هو ضعف التكلفة. والمشكلة الأخرى هي أن الحوافز التي أدت لإعادة هندسة المؤسسة الأمريكية هي نفسها مما اطر الى تحسين إنتاجية الأمن الوظيفي والدخل للطبقة المتوسطة. هذه ليست أزمة سياسية حتى الان، ولكن سوف تصبح واحدة قرب نهاية العقد المقبل، ولكن لن يتم التصدي لها حتى انتخابات 2028 و2032. وهي عادية، ودورية، ومؤلمة رغم ذلك.
لن يمر عقد دون اوجاع وصعوبات اكثر الاوقات مثالية تكون مليئة بالمعانة. الازمات المتوقعة في العقد المقبل هي أسوأ بكثير من تلك التي شهدناها في القرن الماضي ولن تكون أسوأ من التي سنشهدها في المستقبل.
هناك دائما اعتقاد بأن الاستقرار الذي نعيشه الآن هو الكرب في المستقبل. ما لدينا الآن سوف يتغير دائما والتوقعات ينبغي أن تقرأ.
معهد ستراتفور
ترجمة: وكالة اخبار الشرق الجديد – ناديا حمدان