الرقص مع العواصف…
فاطمة طفيلي
كان يا ما كان في قديم الزمان بلد اسمه لبنان في قاموسه تجارب وخبرات، وروايات تناقلتها أجياله عن أحواله السياسية، المعيشية والمناخية، اقترن اسمه على مر الزمن بالأبيض الذي لا ينفك يغطي جباله من قممها إلى السفوح وما بعدها في حال كان الشتاء قاسيا، والطبيعة الغناء وخيراتها الوفيرة ما بعده كما يقول كبارنا، الذين تعايشوا بفرح مع عواصف الشتاء وبرده، وخبروا بالحنكة والدراية أصول الحياة في ظلاله بأقل قدر من الخسائر، واعتادوا تكييف مواسمهم الزراعية على وقع الشتاء وثلوجه، فلكل فصل زراعاته، ودليلهم إلى ذلك موهبة فطرية ولدت خبرة في متابعة مسار الطبيعة وتقلباتها على مدار العام، وكانت خسائرهم محدودة لا تقاس بما نشهده اليوم من أهوال وكوارث جعلت البعض يكفرون بالطبيعة وما عليها.
حكايات الجدة على وقع أصوات المدافئ في الشتاء هي جزء من تراثنا الشعبي، وأمثالهن ما تزال حاضرة إلى اليوم بما فيها من نصائح وتوصيفات تصلح دليلا عن أحوال الطقس وتقلباته: أيلول طرفه بالشتي مبلول، وبين تشرين وتشرين صيف ثان، والاقسى هما الكانونين، أما شباط المكار الذي لا يرحم الكبار، ويحتاط له “الختيار” ولا يهابه، فهو مهما “شبط ولبط”، سيبقى حريصا على عبق الصيف وشمسه، وتبقى “الحَطبات” الكبار محفوظة لآذار، وبعده يتغير إيقاع الحياة وتدور عجلة العمل والنشاط، كيف لا وشتاء نيسان يحيي الإنسان، وفي أيار “إحمل منجلك واندار”، وفي تموز “تغلي المي في الكوز” (الابريق)، وتبدأ ثمار الصيف بالنضوج لنقطف “عن كل تينة كوز” (ثمرة تين)، إلى أن يأتي دور آب اللهاب… وفي قواميس الكبار ما يحتاج أبحاثا مطولة لمعرفة العناوين وما وراءاها من أسرار، وتسميات…
تغير الزمن وازدادت المخاوف والمخاطر، لكن كبارنا لم يغيروا نظرتهم إلى الطبيعة، ولم تتزعزع ثقتهم بها وبما تختزنه من خير حقيقي، لا يتحول إلى الضد إلا بفعل الانسان وما جنته يداه، وما تزال، من عبث بالطبيعة انتهاكا وتشويها.
رغم الفارق الكبير بين الأمس واليوم إلا أن كبارنا كانوا وما يزالون يستعدون للشتاء بكل الاحتياطات الممكنة وفي طليعتها المؤونة للغذاء، والحطب وما تيسر من مواد للتدفئة، ولم يعدموا الوسائل التي تبقيهم بأمان، وبمنأى عن الطبيعة وجنونها المتوقع، فماذا نفعل اليوم غير النّق والتذمر؟!.
نغرق في شبر من المياه، وتجدنا أحوج ما يكون إلى وسائل نقل برمائية تساعدنا على التنقل واجتياز البحيرات العائمة على طرقاتنا، الراكد منها والجاري، وشعارنا الدائم “في الشتاء غريق وفي الصيف حريق”، ولا يغيب عن بالنا المثل القائل “النهر حاملنا والعطش قاتلنا”، فماذا تعلّمنا، ومَن يعي خطورة ما نحن عليه؟!.
على ذات المنوال حكايانا تتكرر كل عام كحكاية إبريق الزيت، ولا نملك من أمورنا إلا البكاء والندب على ما جرى وكان، وتقاذف المسؤوليات، وهنا الطامة الكبرى، فالمسؤوليات ضائعة في بحر من الفساد المستشري على كل الأصعدة، والمهمات عسيرة مع تعثر الخطوات المتواضعة للحل والتغيير، الذي لا يلبث أن يتوه في زواريب السياسة والفئوية والعصبيات القبلية، فعن أي وطن نتحدث؟!.
العناوين معروفة وكذلك الحلول، ولا ينقصها إلا الإرادة والقرار في زمن الفردية والمصالح الضيقة، فأي تغيير سنحقق في بلد احترف أبناؤه الحياة البدائية في عصر الذرة والفضاءات المفتوحة، لا كهرباء ولا ماء، يتعلم ابناؤه على ضوء الشموع، لأن الكهرباء الموعودة تنقطع عند أول نسمة تهب إعلانا بقدوم عاصفة متوقعة، والمولد لم تعد تسعفنا القدرة على سداد كلفة اشتراكاته المرتفعة، التي لم يجدِ في خفضها هبوط أسعار المحروقات إلى ما دون النصف. أما الاتصالات فحدث ولا حرج، هي مقطوعة ولا تفي بالغرض، في زمن ازدهار المنابر الخطابية واحتراف التراشق الكلامي.
زينة ثم يوهان وبعدهما ويندي والآتي أعظم، طالما أن فصل الشتاء لم يصل بعد إلى نهايته، وسجل العواصف مفتوح.