بالإذن من سيد المقاومة أكثر من حرب وأكبر من نصر
ناصر قنديل
قبل كلام سيد المقاومة كنت من الذين كتبوا في وصف عملية مزارع شبعا الاستثنائية بأنّ لها مفعولاً يكاد يصل إلى مستوى حرب كاملة، بترسيمها لموازين الردع من جهة، ومن جهة ثانية في مجال الرسائل التي أعادت تثبيتها رداً على ما حاولت عملية القنيطرة إزالته منها، على مستوى التوازنات الإقليمية والدولية، التي تدور حولها الصراعات المصيرية في المنطقة، والتي اختصر السيد حسن نصرالله خلاصتها في كلامه قبل عملية القنيطرة بمعادلة اللعبة انتهت، وأراد «الإسرائيلي» أن يقول عبر عملية القنيطرة إن اللعبة لم تنته وأن لا شيء قد حسم، وجاءت عملية مزارع شبعا تقول ها نحن هنا فإذا كانت اللعبة لم تنته فتعالوا إلى الحرب، وأنكفأ «الإسرائيلي»، وثبتت المعادلة.
بعد كلام السيد، ومعادلاته الجديدة، والمقارنات التي يعقدها الكثيرون من موقع التقدير للعملية الاستثنائية، بينها وبين حرب تموز، فيقول البعض إنها كرّست نتائج حرب تموز بعد المحاولات «الإسرائيلية» المتكرّرة لإنكارها، فجاءت عملية المزارع تؤكدها، وقول بعض آخر إنها الجولة الأخيرة التي لم تتمّ من حرب تموز لتظهير النتائج الواضحة للحرب، ويقول بعض ثالث إنها بكلفة أقلّ بكثير تعادل نصف حرب تموز، وبالإذن من سيد المقاومة أقول، بعد كلامك، العملية حرب كاملة وليست أقلّ من حرب، لا بل هي أكثر من حرب، ومكانتها الاستراتيجية تتقدم على حرب تموز.
المعارك ليست مباريات شطرنج تتشابه في رصف الحجارة وقواعد اللعبة، ولا مجال للتراكم فيها من جولة إلى جولة، ولا قيمة لشيء اسمه السياق فيها، بل الحرب تشبه الشطرنج في كل شيء إلا في هذه الزاوية، زاوية السياق والتراكم، لتصير معركة صغيرة تقف على كتف تراكم تاريخي وفي سياق حسم ملفات وأحجام وأدوار أكبر مكانة على المستوى الاستراتيجي من حرب دامت لسنوات، وسقط فيها الآلاف، ودمّرت فيها بلدان، ولم تحسم معادلات كبرى، لأنها في التوقيت والتراكم جاءت في البدايات.
المكانة الاستراتيجية للمواجهات العسكرية ليست أبداً بمدة المعركة ولا بحجم النار، ولا بحجم ما توقعه من خسائر بالطرف المقابل، وإلا لكانت بهذه القياسات، حرب تموز نصراً «إسرائيلياً»، وهي عكس ذلك نصر تاريخي للمقاومة وهزيمة مدوية لـ»إسرائيل»، لسببين، هما اللذان يحدّدان المكانة والقيمة الاستراتيجية للمعارك والحروب، الأول درجة التطابق والاقتراب بين ما انتهت إليه الحرب في حال كل طرف مع ما حدّده لنفسه أو يفترض أنه يريده من أهداف من اليوم الأول للحرب، والثاني هو كيف خرج كلّ طرف بالقياس للآخر، أكثر أو أقلّ قدرة على التفكير بالذهاب إلى الحرب مرة أخرى، وبهذين القياسين انتصرت المقاومة وهزمت «إسرائيل» في تموز 2006.
في السياق التاريخي للمواجهة، أي مواجهة، تمنح اللحظة مكانة استراتيجية مفصلية لهذه المواجهة حيث تحتلّ دوراً لا يتوازى مع قياسها بالحجم والنتائج المادية مقارنة بشقيقاتها من نفس النوع، فتتقدم، لأنه قد تكثفت معها في هذه اللحظة التاريخية كلّ موازين الحروب والمواجهات التي سبقتها، وتحكم بالضرورة ما سيليها، وليس افتعالاً القول إنّ اللحظة التاريخية لعملية القنيطرة بكلّ المقاييس، تعادل قرار الذهاب إلى حرب، لأنها تقول هذه خطوط حمراء لا تتخطوها، ومن يجرؤ فليأت إلى الحرب و»إسرائيل» جاهزة، والخطوط الحمراء هي تصرف المقاومة باعتبارها صاحبة اليد العليا في ميزان الردع، وقد استبدلت مع كلام السيد قبل أيام من العملية معادلة توازن الرعب، أيّ الردع المتبادل، بردع تملكه المقاومة، والخطوط الحمراء هي أيضاً قرار «إسرائيل» بتشكيل حزام أمني في الجولان من مجموعات «جبهة النصرة»، والخطوط الحمراء هي منع المقاومة وسورية من التصرف على قاعدة أنّ جبهة الجولان مفتوحة، وأنّ التقرّب منها سواء من حزب الله أو من الحرس الثوري الإيراني خصوصاً ممنوع ومحرّم، وهنا كما قال السيد، عندما قرّرت «إسرائيل» العملية، وضعت قبالة أعينها، أنها ذاهبة إلى الحرب وقرّرت، وأرادت وضع المقاومة أمام التحدي، ولما قبلت المقاومة التحدّي وقرّرت الردّ ومن عيار ثقيل ونوعي واستثنائي، وضعت قبالتها قرار الحرب واتخذت القرار، وهنا كان الفيصل الحاسم، إما أن تثبت معادلة اليد العليا للمقاومة وتنكفئ «إسرائيل»، أو أن تذهب «إسرائيل» إلى الحرب أو ما يوصل إليها، كما بعد عملية الأسر في تموز 2006، وهكذا فالانكفاء «الإسرائيلي» هو تسليم بنتائج حرب لم تقع لكنها قد وقعت على الحواسيب وفي عقول قادة الكيان السياسيين والعسكريين، وبانت نتائجها محسومة بخسارة أكيدة.
الفارق الأول بين هذه الحرب، وبين حرب تموز هو بوضوح النصر الحاسم، ووجوده في أيّ ضفة، ضفة من قارب الحرب ولم يخف، لا ضفة من تهيّب الذهاب إلى الحرب، ومواصلة صعود السلم إليها، معلناً كما في أيّ مباراة، عندما يتبادل اللاعبون النقلات، ويجيء دور لاعب في النقلة التالية فيعلن انسحابه من المباراة، عندها يعلن الحكم نهاية اللعبة ويرفع يد المنتصر، بينما بقي النصر في تموز مرتبطاً بالفشل «الإسرائيلي» في تحقيق الأهداف والإصابات التي لحقت قدرة الردع «الإسرائيلية» وجعلتها أقلّ قدرة على الذهاب إلى الحروب، أما هنا فالنصر حاسم، «إسرائيل» تنسحب من التحدّي وتعلن نفسها دولة غير صالحة للحرب، هذا عدا عن فارق التشوش الذي أراد الكثيرون إلحاقه بنصر تموز باستحضار الكلفة التي تكبّدها لبنان في العمران والأرواح مقابل خسائر «إسرائيل» الأقلّ بكثير، بينما في هذه الحرب، الصورة مبهرة ومذهلة لشدّة الوضوح والنقاء واستحالة الإنكار.
الفارق الثاني أنّ النصر في تموز، رتب نهاية عسكرية وأمنية وديبلوماسية تمثلت بالقرار 1701، الذي فشل «الإسرائيلي» بكلّ ما وراءه من دعم دولي في استصداره على ما كان يتمنى وفقاً للفصل السابع وربطاً بسحب سلاح المقاومة، حيث ترتب على الصمود وفشل القدرة على تحقيق الأهداف ومواصلة تساقط الصواريخ على مدن الكيان وتجمّعاته، بداية انهيار في جبهته الداخلية، وبدء انخفاض في سقف أهدافه وصولاً لقبول صيغة لا تمسّ السلاح المقاوم، ولا تضع لبنان أو جنوبه تحت مظلة التدويل ولا تحت الفصل السابع، بل تربط «اليونيفيل» ومهماتها بدعم الجيش اللبناني، لكن كلّ هذا لا يمنع القول إنّ القرار 1701 الذي عبّر بنسبة معينة عن انتصار المقاومة بإسقاط كلّ ما يخدم «إسرائيل» كما ورد في نسخته الأصلية، قد رتب قيوداً على حركة المقاومة عسكرياً وأمنياً بالقياس لما كان عليه الوضع قبل الحرب، وعلى رغم كون القيود لا تمسّ جوهر هوية ودور المقاومة وسلاحها، إلا أنّ ذلك لا ينفي وجودها، بينما هذه الحرب حرّرت المقاومة من قيود، وقياساً بما قبلها توسّع بسببها هامش حركة المقاومة الأمني والعسكري ومناوراتها الميدانية، وسقف حركتها الاستراتيجي، أسقط السيد قواعد الاشتباك، وأعلن رفض تفكيك الميادين والساحات، وأطلق قرار ربط الجبهات الجغرافية، ما يعني أنّ المقاومة تنتقل من نتيجة قبلتها بنهاية حرب تموز هي كونها حصراً قوة حماية للبنان إذا تعرّض للعدوان مرة أخرى، وتترك أمر مزارع شبعا للدولة اللبنانية، وتمتنع عن العمل فيها، لتصير بعد هذه الحرب، الطريق إلى القدس، مقاومة إقليمية لا تعترف بالفصل بين جبهة الجنوب اللبناني وجبهة الجولان السوري وربما جبهة الداخل الفلسطيني، ولا تلتزم حدود عملها كقوة لبنانية وفي دائرة الحدود اللبنانية، وها هي تفتتح حربها في مزارع شبعا وعلى أبواب الجولان والجليل معاً.
الفارق الثالث بين الحربين هو أنّ الحرب الأولى في تموز 2006 جاءت في لحظة ذروة الاندفاع الأميركي لاستخدام فائض القوة «الإسرائيلي» لصياغة الشرق الأوسط الجديد، وكان صمود المقاومة كافياً، لإسقاط المشروع، وكان انعطاف السياسة الأميركية نحو اختبار البدائل الأخرى، من محاولات تشجيع التغيير في إيران بما يخرجها لقاء أثمان إقليمية واقتصادية من جبهة المقاومة وقضية فلسطين، إلى محاولة إسقاط المقاومة في غزة، إلى مشاريع التسوية الفلسطينية «الإسرائيلية» لتشكيل حلف عربي ـ «إسرائيلي» في وجه محور المقاومة وصولاً إلى جبهة حرب ضدّ إيران، وانتهاء بمحاولة إسقاط سورية عبر توظيف الهبة الشعبية العربية لتحويلها إلى فوضى شاملة تختبر فرص التعاون مع الثنائي التركي ـ القطري وأخونة المنطقة أملاً بإسقاط سورية وقصم ظهر محور المقاومة، وها هي الحرب الثانية بين القنيطرة وشبعا تتمّ في نهاية المشوار الأميركي، وقطاف الفشل الشامل، وصولاً إلى اكتشاف حلفائه المصابين بالكساح، وتبلور معالم حرب وجودية على الإرهاب تتقدّم كتحدّ صنعه الأميركي لخصومه فوقع هو وحلفاؤه في شروره، وصار الأولوية التي لا مفرّ من الحسابات اللازمة لملاقاتها، فتغرّد «إسرائيل»، كما السعودية، كما تركيا، كحلف خاسرين، خارج السرب الأميركي، حقيقة كان كلام أوباما عن الضربة الموجعة التي لا تستحق حرباً، خير تعبير عنها.
الفارق الرابع هو أنّ حرب تموز جرت بينما إيران، تحت التهديد والحصار والعقوبات، فكانت حرب المقاومة دفاعاً ولو بصورة غير مباشرة عنها، بينما تجري هذه الحرب وإيران على أبواب تتويج ثلاثة عقود ونصف من الصمود في وجه الحروب والضغوط بنصر ديبلوماسي وسياسي واقتصادي، عبر مفاوضات تقترب من النهايات السعيدة، وبالتالي إذا كانت الحرب الأولى في تموز اختباراً لصدقية المقاومة مع حليفها الأبرز الذي تمثله إيران وصولاً إلى قول سيد المقاومة لا يضيرنا أن يستثمر حلفاؤنا على انتصاراتنا ويشاركوننا بنتائجها، فإنّ هذه الحرب اختبار لصدقية تحالف إيران مع المقاومة، بمثل ما هي ميزان استراتيجي لمكانة المفاوضات من الثوابت الاستراتيجية في حسابات كلّ من أميركا وإيران، فجاءت الحرب تقول إنّ أميركا وليست إيران من باع ثوابته وحلفاءه لأجل عدم التشويش على المفاوضات ونتائجها، وحسمت بهذا البعد أمراً استراتيجياً غاية في الأهمية وهو يد مَن هي العليا في معادلة الإقليم، وثوابت مَن هي التي ستحكم زمن ما بعد التفاهمات، ومَن هو الطرف الذي يحتاج التفاوض أكثر، ويدفع ثمن حمايتها من حساب دعمه لحلفائه، إيران أم أميركا، لقد تمسكت إيران بحزب الله وحقه في الردّ علناً، بينما تخلت أميركا عن «إسرائيل» وما كانت تسمّيه «حقها المشروع بالدفاع عن النفس».
الذي جرى حرب وأكثر، ونتائجه تتخطى النصر في تموز، والأيام تتكفل بتظهير الحقائق لمن تغشى عيونه غمامة.
(البناء)