خطاب اوباما: براعة بلاغية لتغطية الاخفاقات السياسية د.منذر سليمان
الخطاب السنوي للرئيس الاميركي “واجب دستوري” دأب على تطبيقه كافة الرؤساء الاميركيين في مناسبة سنوية فريدة تجمع السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية الاميركية تحت سقف مجلس النواب، يستعرض فيها ما آلت اليه احوال الأمة على الصعد الداخلية والخارجية، ويرسم آفاق السياسة المقبلة للعام التالي والمرحلة المقبلة. من النوادر هذه السنة تغيب ثلاثة من قضاة المحكمة العليا عن الحضور، والتقاط صورة لقاضٍ آخر غافيا خلال الجلسة.
خطاب الرئيس اوباما، الذي نحن بصدده، سلك ذات الدرب لاسلافه ورسم صورة مشرقة وواعدة لما يجري وسيجري؛ والذي عادة يسجل له بلاغته واقتراب خطاباته من نص أدبي راقي، تخلله “اقتراحات” لاجندة تشريعية يطمح في تحقيقها خلال ما تبقى له من ولاية رئاسية.
بعد تعديل موازين القوى السياسية لصالح خصومه الجمهوريين، يعتمد مدى نجاح الرئيس اوباما في تطبيق اجندته السياسية، او الجزء الأهم منها، على اسلوبه وبراعته في التعامل مع الخصوم المتوثبين لتقويض اية انجازات تصب في صالح الرئيس وحزبه الديموقراطي؛ وايضا على مدى فعاليته في ردم الهوة التي تزداد اتساعا بين الحزبين.
الجزء الاكبر من المراقبين اتهم الرئيس اوباما بالغطرسة وبلهجة التحدي، وقليل من حكمة التعامل المشترك – في الجانب الشكلي. اما في المضمون فجاء خطابه متساوقا مع طموحاته والتصرف بالحقائق السياسية والمتغيرات الدولية بما يخدم رؤيته ورؤية المؤسسة الحاكمة الساعية دوما لبسط سيطرتها وهيمنتها على العالم اجمع، بمقدراته وثرواته البشرية والطبيعية.
في الشق الداخلي، تفادى الرئيس اوباما الخوض في نتائج الانتخابات النصفية التي اسفرت عن خسارة مدوية لحزبه الديموقراطي، ولم يفصح عن اي مؤشر يفيد بتغيير السياسات المتبعة ملوحا مرارا باستخدام حق النقض (الفيتو) لافشال اي مشروع يصر عليه خصومه ويحد من “انجازاته” السابقة.
في بعد السياسة الخارجية، وتحديدا ما يتعلق “بالشرق الاوسط،” اثبت الخطاب بعد المسافة بين الواقع والتنميات، وخاصة فيما يتعلق بما يسمى محاربة الارهاب. يذكر ان الرئيس اوباما اثنى قبل اشهر معدودة على تعاون الحكومة اليمنية في محاربة الارهاب وسماحها لشن غارات جوية بدون طيار على مواقع مشتبه بعودتها لتنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية، بيد انها حصدت اعدادا مرتفعة من الضحايا المدنيين. وسرعان ما انهارت الحكومة اليمنية تحت وطأة فشل سياساتها وتبعيتها واخفاقها في وضع حد لتدهور الاوضاع الاقتصادية.
الارهاب رديف السياسة الخارجية
في مواجهة تنظيم الدولة الاسلامية، زعم الرئيس اوباما ان “قيادة اميركا للعمليات العسكرية في العراق وسورية اوقفت تقدم وتمدد الدولة ..” مؤكدا على نجاح الجهود في نهاية الأمر عبر “استخدام مزيد من القوة” ضد التنظيم. اما زعمه “بمطاردة الارهابيين،” فقد فندته وقائع المشهد الباكستاني في الهجوم الدموي على مدرسة ذهب ضحيتها بضع مائة من الطلاب والطاقم التدريسي والمعاونين المدنيين.
اما اشادته بفعالية دور التحالف الذي تقوده واشنطن فقد نال قسطا وافيا من التندر والفكاهة بين اوساط المحللين والاعلاميين على السواء، خاصة بدفاعه عن عدم الانخراط مجددا “وبدل ان نغرق في حرب جديدة على الارض في الشرق الاوسط، نقود ائتلافا واسعا يضم دولا عربية، من اجل اضعاف هذه المجموعة الارهابية وصولا الى تدميرها.” وعبرت شبكة (ان بي سي) الاميركية للتلفزة عن صدمتها من ادعاء الرئيس بصوابية وفعالية استراتيجيته “لوقف تمدد الدولة الاسلامية،” بينما تثبت الاخيرة قدرتها على المرونة والتكيف مع الظروف.
واشارت الشبكة الى هجمات باريس وتدهور الاوضاع الأمنية في العراق وسورية كمؤشر على “تنامي حضور الدولة الاسلامية والمجموعات الارهابية الاخرى .. وتصوير الأمر بأنه انجاز يجافي الحقيقة، وربما مراوغ ومخادع.” واضافت الشبكة ان الرئيس اوباما “بعيد عن الحقيقة. نعم انشأ تحالف دولي لكنه لم يوضح معالم استراتيجية” للتصدي الفعال. وذهبت الى مطالبة الادارة اجراء “تعاون غير رسمي مع ايران نظرا لمتطلبات المصالح السياسية المشتركة .. في مواجهتما ضد الدولة الاسلامية.”
لوحظ غياب اي اشارة في خطاب اوباما – ولو عابرة – الى مصير الجهود الاميركية حول ما يطلق عليه التسوية السلمية او لرعاية التفاوض بين السلطة الفلسطينية والحكومة “الاسرائيلية .”
بالغ الرئيس اوباما، اعلاميا، في ادعاء “وقف تقدم البرنامج النووي الايراني والحد من المخزون النووي، لأول مرة منذ عقد من الزمن،” نظرا لسياساته الراهنة في التفاوض؛ ومضى محذرا قيادات الكونغرس الجديد من تقييد حركته وسن تشريع يقضي بتشديد العقوبات الاقتصدية على ايران التي “ستطيح حتما بالجهود الديبلوماسية – وعزل الولايات المتحدة عن حلفائها، أمر لا نجد معنى له.” وهدد خصومه “باستخدام حق الفيتو ضد اي قانون عقوبات جديد يهدد احباط هذا التقدم.”
من نافل القول ان السياسة الاميركية المعادية لايران لم يصبها اي وهن بحكم عامل الزمن، بل تتجدد تجلياتها بين فترة واخرى خاصة في مواسم الانتخابات الرئاسية، التي كان ابرز اقطابها، المرشح للرئاسة آنذاك والسيناتور الحالي، جون ماكين في مداعبته الجمهور الانتخابي “اقصف، اقصف ايران.” انتقال مركز ثقل السلطة السياسية في الكونغرس الى الحزب الجمهوري ساهم في تعزيز معارضة اقطاب الحزب الديموقراطي ايضا. اذ اتهم رئيس لجنة السياسة الخارجية السابق في مجلس الشيوخ، روبرت مننديز، الرئيس اوباما بتبني الخطاب السياسي الايراني وتصوير ايران “بالضحية .. بينما في حقيقة الأمر هي التي كانت ترفض الافصاح عن برنامجها النووي منذ 20 عاما.”
الشق الايراني في خطاب اوباما حفز الحزب الجمهوري لشحذ سهام معارضاته، لجملة ما ورد لا سيما ذكر الرئيس ان “امامنا فرصة للتفاوض تنتهي مع الربيع والتوصل لاتفاق شامل يمنع ايران من امتلاك سلاح نووي ويضمن أمن الولايات المتحدة وحلفاءها بمن فيهم اسرائيل ..” واستشاط غضبا رئيس مجلس النواب جون بينر، الفاقد للكياسة الديبلوماسية، ورد بتوجيهه دعوة لبنيامين نتنياهو لالقاء كلمة امام جلسة مشتركة لمجلسي الكونغرس، متجاوزا كافة الاعراف والاصول الديبلوماسية سارية المفعول والتي تحصر دعوة اي زعيم آخر بالسلطة التنفيذية ووزارة الخارجية، ومن ثم يجري ترتيبها وفق الاصول.
البيت الابيض بدوره لم يتأخر بالرد العاجل اذ وصف دعوة بينر بانها “خروج على اصول البروتوكول،” اتبعه لاحقا ببيان صريح ينفي فيه نية الرئيس لقاء الضيف الذي أُجلت زيارته من شباط/فبراير الى الثالث من آذار القادم، تلاه بيان لوزارة الخارجية يفيد بعدم نية لقاء الوزير كيري مع الضيف ايضا.
بعض معارضي نتنياهو، خاصة في الاجهزة الأمنية، ابلغوا المعنيين في مجلس الشيوخ عن عدم موافقتهم نية الكونغرس فرض مزيد من العقوبات الاقتصادية على ايران في الوقت الراهن، والتي ستتخذ مفعول “القاء قنبلة متفجرة على المفاوضات الجارية.” ما يضاعف الأمر تعقيدا ايضا الغارة “الاسرائيلية” في الجولان واستشهاد مقاومين من حزب الله وأحد الضباط الايرانيين الكبار، مما قد يستدعي “ردا رادعا” للغطرسة “الاسرائيلية” قد يفاقم الاوضاع ويهدد بنشوب حرب اخرى اشد قسوة، والتي ستحتاج “اسرائيل” فيها الى دعم وتأييد وامداد اميركي خارج سياق المفاوضات النووية.
بالعودة لخطاب الرئيس اوباما، اتى على ذكر ظاهرة “الارهاب” بتفصيل ملحوظ، لم يقرنه بتنظيم القاعدة التي تجنب ذكرها بالاسم عند قوله “نقف صفا واحدا مع كل الذين استهدفهم ارهابيون في جميع انحاء العالم، من مدرسة في باكستان الى شوارع باريس .. سنواصل مطاردة الارهابيين وتدمير شبكاتهم ونحتفظ بالحق في التحرك من بصورة منفردة مثلما نفعل منذ انتخابي (رئيسا) لتصفية ارهابيين يشكلون خطرا مباشرا علينا وعلى حلفائنا.” وشدد اوباما على حاجة بلاده “لمساعدة دول مثل اليمن وليبيا والصومال .. ونقل المعركة المشتركة الى عرين الارهابيين مثلما نفعل في مالي.”
اخفاقات في ساحات متعددة
اشادة الرئيس اوباما “بانجازاته عزل روسيا” لم تمر مرور الكرام، وتنطح لتفنيدها سياسيون واعلاميون على السواء. اذ قالت شبكة (ان بي سي) الاميركية للتلفزة مع الاقرار بتراجع اداء الاقتصاد الروسي، فان “المعارك تستمر في (مقاطعة) دونيتسك، ولم نفلح بعد في تحديد اهدافنا في اوكرانيا .. العقوبات الاقتصادية لم تؤتِ ثمارها، واوكرانيا بحاجة لمزيد من شحنات الاسلحة.”
تحسن اداء الاقتصاد الاميركي يرافقه انخفاض اسعار وقود الطاقة ربما هو الانجاز الحقيقي الذي ينبغي حسبانه في خانة الانجازات للرئيس اوباما. المفارقة ان اغلبية معتبرة من الشعب الاميركي، 60%، تعتقد ان الحالة الاقتصادية “ليست على ما يرام .. او ضعيفة.” فرص العمل لا زالت تتقلص والاجور لم تشهد تحسنا منذ سنوات طويلة، وفق احصائيات وزارة العمل الاميركية. الامر الذي دفع وزير العمل عينه، توماس بيريز، الى حث الادارة على “تكثيف الجهود لمعالجة الانخفاض الحقيقي في نمو مؤشر الاجور.”
تجدر الاشارة الى ان الحملة الاعلامية المكثفة التي سبقت الخطاب روجت لعزم الرئيس اعادة الاعتبار للطبقة الوسطى وترميم سياسة تقليص الانفاق وزيادة الاستثمار في قطاعي التربية والتعليم وتحديث البنى التحتية. سياسة الحزب الجمهوري الثابتة بمناهضة اي برامج وسياسات انفاق على الرعاية الاجتماعية والصحية لقيت صداها في المجتمع، اذ اشار احد احدث استطلاعات للرأي، اجراه معهد راسموسن، الى دعم نحو 68% من الناخبين ضرورة التفاتة الرئيس اوباما لانجاز برامج قابلة للتطبيق فيما تبقى له من ولايته الرئاسية. اما نسبة دعم برامجه الطموحة فلم يدعمها سوى 17% من جمهور الناخبين.
استنادا الى معارضة الاغلبية لسياسات الانفاق الحكومي، يمكننا القول ان ادعاءات الادارة تحقيق انجازات في السياسة الخارجية لا تستند الى حقائق موضوعية، يعززها احجام غالبية اكبر عن مشاهدة ومتابعة الخطاب الرئاسي.
الانتخابات الرئاسية المقبلة
الاطار العام لخطاب الرئيس اوباما أخذ بعين الاعتبار السباق الرئاسي ومرشحي حزبه الديموقراطي، ومن ثم اغلب ما ورد فيه كان يرمي لخدمة خطاب المرشحين المقبلين، سيما لذكره مرارا ما ينوي انجازه في السنتين المقبلتين. ورمى الرئيس اوباما لصياغة وترتيب اولويات عناصر الاجندة المقبلة وتسخيرها في خدمة الحزب الديموقراطي، مستندا بشكل رئيس على تحسن الاداء الاقتصادي – كما تراه النخبة الحاكمة. ان شئنا التدقيق في مفردات الاجندة لوجدنا انه لا ينوي العمل مع الكونغرس وفق ارضيتها، بل استخدامها كاطار لاطلاق حملة المرشحين الديموقراطيين؛ ومن هنا يمكننا سبر اغوار الجمل الرنانة حول تحقيق طموحات الطبقة الوسطى، بينما غابت مفردات عدم المساواة واشراك الطبقة الوسطى في توزيع الثروة.
البرامج او الخطط المقترحة، جلها في نطاق الرعاية الاجتماعية والصحية والتربوية، هي عناصر مماثلة لاجندته الانتخابية في المرتين السابقتين، والتي من شأنها اعادة تصويب النقاش العام حول اهمية رفع مستوى المعيشة للطبقة الوسطى بشكل خاص. تجزئة “الاجندة” بغية تهميشها واثبات عقم تطبيقها هي من الامور التي سيسلط عليها الحزب الجمهوري جهوده البارعة في تشويه صورة الخصم، خاصة في بنود الرعاية الصحية الشاملة – اوباما كير، التي اضافت قوانين واجراءات اضافية ينبغي التزام ارباب العمل بها.
دولة الرعاية وبرامجها المتطورة برزت في ظل اوضاع محلية ودولية يعتقد الحزب الجمهوري انه آن الاوان لاعادة النظر بها والغائها، تحت ظل مقولة “تقليص حجم الدوائر الحكومية واطقمها المنفلتة من عقالها.” نجاح الحزب الجمهوري في الانتخابات الرئاسية المقبلة تلوح في الافق، حسبما تفيد استطلاعات الرأي المختلفة، معظمها على ارضية معارضته لشخص الرئيس اباما ومن يدعمه امتدادا. “ازمة” الحكم تتجدد كل دورة انتخابية، والعام المقبل ليس استثناءاً للقاعدة الاميركية.