الحرب على «داعش» وخطاب “حالة الاتحاد” جيمس جيفري
في خطاب “حالة الاتحاد” الذي ألقاه الرئيس الأمريكي باراك أوباما مساء الثلاثاء، تسنت له الفرصة لإطلاع الشعب الأمريكي على التحديات الفريدة التي يطرحها تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» («داعش»)/«الدولة الإسلامية»، وكذلك على الخيارات الصعبة التي سيتعين على الولايات المتحدة وغيرها اتخاذها عند التعامل مع هذه الظاهرة. ولكنه عوضاً عن ذلك مرّ على الموضوع مرور الكرام مكرراً التزامه “بإضعاف التنظيم والقضاء عليه في النهاية” دون أن يأتي على ذكر الخطوات المقبلة التي ستُتخذ أكثر من الكلام عن المسعى الذي تزداد سخريته يوماً بعد يوم حول تسليح المعارضة السورية بخطىً متهاودة، وإصدار قرار في الكونغرس بإجازة استخدام القوة ضد «داعش». وقد تناقض ذلك مع الوقت المكثف الذي خصصه على الهواء للترويج لمبادرته تجاه كوبا، وهي – بغض النظر عن وجهات النظر حول هذا القرار – مسألة لا تمت بأي صلة تقريباً للأوضاع الراهنة نظراً إلى الأزمات المختلفة في جميع أنحاء العالم .
والانطباع الذي يُستقى من الخطاب هو أن تنظيم «الدولة الإسلامية» ليس قوة تهدد بتمزيق الشرق الأوسط، بل إنه واحدة من بين عدة مشاكل تتولى قيادة أمريكية “حكيمة” “معالجتها” بواسطة جيوش دول أخرى – شأنها شأن فيروس الإيبولا. وصحيح أن الاستراتيجية ضد «داعش» التي تعتمد على الحلفاء والقوات المحلية هي استراتيجية منطقية بحد ذاتها، وأن الرئيس كان على حق في تأكيده أن التحالف الدولي يوقف زحف التنظيم، ولكنه لم يلفت سوى بإيجاز (“بما في ذلك قوتنا العسكرية”) إلى الدور الحاسم الذي تلعبه الضربات الجوية الأمريكية في هذا النجاح.
وفي الوقت نفسه، أشار أوباما مراراً وتكراراً إلى أن أكثر ما يقلقه في إطار السياسة الخارجية هو ليس تنظيم «الدولة الإسلامية»، بل الفكرة بأن تسترسل الولايات المتحدة في مكافحة الجهاديين والتهديدات الأخرى. وعاود الخطاب التطرق عدة مرات إلى موضوع من حملته الرئاسية من عام 2008 حيث كانت أمريكا الدولة المارقة بعض الشيء تسبب المشاكل الأمنية عوضاً عن حلّها من خلال جيشها: “حين نتخذ قرارات متسرعة ونتفاعل مع العناوين الرئيسية بدلاً من تشغيل عقولنا؛ حين يكون ردنا الأول إزاء أي تحدٍّ هو إرسال جيشنا – عندئذٍ نخاطر بالانجرار إلى نزاعات نحن بغنىً عنها”؛ “لقد تعلمنا دروساً مكلفة خلال السنوات الثلاث عشرة الماضية”؛ “بدلاً من الانسياق إلى حرب برية أخرى…” ؛ “بدلاً من إرسال قوات برية ضخمة إلى الخارج…”
وفي الواقع أن هذه الرسالة تعتبر صائبة جداً إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار كيفية تعامل واشنطن مع تنظيم «داعش» خلال الأشهر المقبلة الخطيرة، حين سيضطر التحالف الدولي إلى الانتقال من المهمة البسيطةنسبياً التي تتمثل باحتواء التنظيم إلى المهمة الفائقة الصعوبة وهي اتخاذ موقف الهجوم للقضاء عليه. وهذا الحذر من استخدام القوة العسكرية الأمريكية ليس مجرد كلام محصور بخطاب “حالة الاتحاد” – بل يتماشى مع التصريحات العلنية التي أدلى بها كبار مستشاري الرئيس حول اعتبار تفادي الخسائر البشرية هدفاً من أهداف الأمن القومي، كما ومع استمرار الإدارة الأمريكية برفض نشر “القوات الخاصة” لمساعدة القوات المحلية التي يتوقع منها المبادرة بشن الهجوم على تنظيم «الدولة الإسلامية» في الموصل والفلوجة.
والجدير بالذكر هو أنه يتعذر احتواء تنظيم «داعش» – ومعه تنظيم «القاعدة» ومختلف فروعه – بسهولة أو لفترة طويلة دون إجراء تغيير جدي في السياسات. إن الوقت هو ليس بالضرورة حليف واشنطن؛ فمن اليمن إلى مرتفعات الجولان رأينا خلال الأسبوع الماضي وحده كيف أن الدينامية التي تشمل الرئيس الأسد وتنظيم «الدولة الإسلامية» وإيران و «القاعدة» تهدد الاستقرار الإقليمي بطرق متجددة باستمرار. لذلك فإن السياسة المرتكزة على تفادي “الأخطاء” العسكرية فوق كل اعتبار لا تكفي للتعامل مع هذه المشكلة وطمأنة الحلفاء.
سوف تتاح للرئيس الأمريكي فرص أخرى خلال الأسابيع المقبلة – بما فيها طرح مشروع “ترخيص استخدام القوة العسكرية” ضد «داعش» – من أجل تقديم تحليل أكثر شمولاً للخطوات المستقبلية إزاء هذه المشكلة. ويشمل ذلك مرافقة “القوات الخاصة” الأمريكية للقوات المحلية كما سبق وأن ناقش ذلك الجنرال مارتن ديمبسي (رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية) وكما بدأت كندا بالفعل بتنفيذه. وعلى نطاق أوسع، يجب على الرئيس أن يوضح جدوله الزمني ويشرح كيف ينوي نشر قوات المعارضة السورية المدربة، بما في ذلك نشرها لمواجهة نظام الأسد.
ديفيد بولوك
يتجسد هذا الواقع الصعب بصورة أفضل من خلال التناقض بين خطاب الرئيس الأخير حول الموضوع والأحداث الأخيرة التي وقعت في اليمن. فمنذ أربعة أشهر فقط، كان الرئيس يثني على تلك الدولة بصفتها مثالاً على الجهود الأمريكية “الناجحة” في التصدي للتهديدات الإرهابية العالمية دون التزام لا مبرر له. ولكن اليمن اليوم تتداعى بصورة لم تشهدها من قبل: فالثوار الحوثيون الشيعة المتحالفون مع إيران قاموا بطرد الحليف المحلي لواشنطن من قصره الرئاسي، والجنوب يتهاوى مرة أخرى على شفير الانشقاق، في حين أن التهديد الأكثر مباشرةً لمصالح الولايات المتحدة الأمنية هو أن تنظيم «القاعدة» يستعيد نشاطه وهو مصمم بشكل واضح على تصدير الجهاد، ليس فقط ضمن المنطقة بل إلى أوروبا وخارجها، والبرهان على ذلك هو العمل الوحشي الذي ارتُكب في باريس الأسبوع الماضي. وبينما يمكن تصنيف هذا التهديد بأنه “قابل للسيطرة” بالنسبة للولايات المتحدة، إلا أنه ليس كذلك بالنسبة لحلفائها الرئيسيين – ومن الواضح أن الإدارة الأمريكية لا تسيطر عليه حتى في الوقت الحالي.
وبالإضافة إلى ذلك، أن خطاب الرئيس الذي شدد فيه أيضاً على تصميمه الثابت على إتمام صفقة نووية مع إيران، ينطوي على تلميح بأن التعامل مع إيران سيساعد نوعاً ما في مثل هذه التحديات الصعبة. ولكن حتى إذا تم التوقيع على اتفاق نووي، ليس هناك سبب وجيه يدعو لتوقع التعاون الإيراني في أي مسألة إقليمية أخرى تقريباً (ربما باستثناء أفغانستان).
بل على العكس من ذلك، من المحتمل أن تصبح إيران آنذاك أقوى اقتصادياً وأجرأ استراتيجياً لتوسيع دعمها الممتد كثيراً للأنشطة الإرهابية والتخريبية والطائفية في اليمن ودول “مجلس التعاون الخليجي” والعراق وسوريا ولبنان والكثير غيرها. ومن المؤكد أن هذا التوقع هو السائد في المنطقة بين العرب والأتراك والأكراد والإسرائيليين على حدٍّ سواء. ويعزز ذلك استعداد الإدارة الأمريكية على ما يبدو لقبول المساعي الدبلوماسية الجديدة التي قد تمكّن إيران وروسيا من الحفاظ على نظامهما العميل في دمشق إلى أجل غير مسمى.
وقد يسأل البعض: ما هو البديل الأفضل؟ من أهداف هذا الخطاب بالذات، كان من الحكمة بصورة أكثر الدفاع عن أصدقاء أمريكا في المنطقة، على الأقل خطابياً، بدلاً من مجرد الاكتفاء بمضاعفة الجهود المبذولة لاسترضاء أعدائها.
روبرت ساتلوف
الفقرات التي تطرقت إلى الشرق الأوسط في خطاب “حالة الاتحاد” جديرة بالاهتمام بسبب ما لم تناقشه بقدر ما هي بسبب ما ناقشته. فالرئيس لم يُشر إلى الدكتاتور الذي قال عنه قبل ثلاث سنوات إنه يجدر به التنحي (بشار الأسد)، ولا النظام العربي الأخير الذي استهدفته القوات الأمريكية (ليبيا)، ولا قصة الانتصار على الإرهاب لمرة واحدة التي تحولت إلى قصة مريرة (اليمن)، ولا المبادرة الدبلوماسية التي شغلت ذات مرة وزير خارجيته بدوام شبه كامل تقريباً (عملية السلام بين إسرائيل وفلسطين). ومن جهة أخرى، لم يذكر اثنين من الأخبار الحسنة، وهما: العملية الديمقراطية السلمية التي تجري في تونس ودعوة الرئيس المصري إلى الإصلاح في الإسلام.
وبالفعل، فإن الأمرين الوحيدين اللذين جذبا اهتماماً كبيراً في خطابه كانا الحرب على تنظيم «الدولة الإسلامية» والمفاوضات النووية مع إيران، ما يشير إلى أن هاتين المسألتين تحتكران بشكلٍ شبه كلي اهتمام الرئاسة بشؤون سياسة الشرق الأوسط هذه الأيام. وفي الواقع أن التركيز على هذين الموضوعين يميل فقط إلى أن يؤكد ما يعتقده بالفعل الكثير من المحللين – ومعظم سكان الشرق الأوسط – وهو أن هاتين القضيتين مترابطتان بشكل وثيق. ومن المفارقات أنه في اليوم نفسه الذي تغلب فيه الحوثيون المدعومون من إيران على القوات الحكومية في صنعاء ونعى الإعلام الإيراني جنرالاً إيرانياً “شهيداً” كان يعمل مع خلية إرهابية تابعة لـ «حزب الله» داخل سوريا، وصف الرئيس الأمريكي النقاد الذين يؤيدون التشدد في السياسة الأمريكية تجاه إيران بأنهم هم الذين يحاولون “الذهاب إلى الحرب“.
أندرو تابلر
غيّر الرئيس أوباما إطار القضية السورية بصورة تامة فيما يتعلق بمحاربة «داعش»، فانحرف عن خطاباته السابقة التي تحدث فيها بإيجاز عن الضغط على نظام الأسد ودعم المعارضة من أجل بناء سوريا مستقبلية “خالية من الدكتاتورية والإرهاب والخوف”. وبينما يتماشى هذا الأمر تماماً مع استراتيجية واشنطن المتمحورة حول العراق لمحاربة تنظيم «الدولة الإسلامية»، يبقى السؤال حول أي من القوات التي ستهزم هذا التنظيم في سوريا دون جواب. ولم يكن هناك أي إقرار بأن السماح للحرب في سوريا بالتفاقم وللجهاديين بالتنامي قد أدّى إلى نشوء المعضلة الصعبة التي تواجهها الإدارة الأمريكية اليوم وهي: أن نظام الأسد مشلول ومفلس سياسياً وعاجز عن الاستحواذ على كامل الأراضي السورية والاحتفاظ بها، في حين ضعفت المعارضة المعتدلة بوجه الجهاديين بسبب الانقسامات الداخلية ونقص الدعم العسكري الأمريكي.
وإذا لم تتوفر رسائل علنية أكثر قوة ومساعدة عسكرية أكبر، فمن المستبعد أن يبذل السوريون المعتدلون والحلفاء السنة – الذين يسعون إلى استبدال الرئيس الأسد بحكومة أكثر شمولية – الجهود الضرورية ويخصصون القوات اللازمة “للقضاء” على «داعش». وفي الوقت نفسه، يَعتبر معظم الغالبية السنية في المنطقة أن واشنطن تنحاز فعلياً إلى جانب إيران الشيعية وشركائها العراقيين الشيعة في حرب يزداد طابعها الطائفي، وتتمحور في سوريا والعراق.
معهد واشنطن
جيمس جيفري هو زميل زائر متميز في زمالة فيليب سولوندز في معهد واشنطن. ديفيد بولوك هو زميل كوفمان في المعهد ومدير “منتدى فكرة”. روبرت ساتلوف هو المدير التنفيذي للمعهد. أندرو تابلر هو زميل أقدم في برنامج السياسة العربية في المعهد.