بشارة الميلاد…
فاطمة طفيلي
عاش اللبنانيون هذا العام بجميع مذاهبهم وطوائفهم أجواء ميلادية مميزة، أعادت تظهير الواقع الفعلي الجامع الموغل في التاريخ والممتد إلى الحاضر فالمستقبل، رغم كل الشوائب المفتعلة والعابرة، التي اعترته في فترات مختلفة، والتي شهدنا أخطرها في السنوات الأخيرة، وما زالت تتوالى فصولا في لبنان والمنطقة، منذ ظهور ما سمي بالربيع العربي الزاحف إلينا بلبوس الدين زورا وبهتانا، والذي تجلى بأبشع صوره قتلا وتدميرا وتشويها لحضارات انسانية عمرها آلاف السنين.
أجواء الميلاد هذا العام ورغم قساوة الظروف كانت التعبير الأرقى عن إرادة الشعوب المحبة للحياة والمصممة على ترجمة البعد الحقيقي لميلاد الفادي، الذي كانت ولادته بشارة خير حملت الفرح الى كل بقاع الأرض وجهاتها.
مناسبة الميلاد شكلت مشهدا لأصالة وحدة الحياة وقوة الانتماء الواحد في بلدان الشرق العربي، ولا سيما في لبنان وسورية وفلسطين، فتزينت القرى والشوارع والأسواق وبلدات وبيوت المسلمين والمسيحيين معا، في احتفالات كانت أقرب إلى فعل مقاومة سافرة لموجة الإرهاب التكفيري التي تضرب المنطقة وتهدد بلدانها.
المسيحية المشرقية راسخة الجذور في هذا الشرق، لم تستطع جميع الغزوات النيل من حضورها. والأهم في هذه الأيام، هو أن المسيحيين المتمسكين بهويتهم المشرقية العربية، يؤكدون دورهم الحضاري والتحرري. بينما يدرك مسلمو منطقتنا وبلداننا أهمية هذا البعد في نسيجهم الوطني، وهم يواجهون الاحتلال الصهيوني في فلسطين وجرائم التكفير والعدوان الأجنبي في سورية والتهديد الإرهابي الوجودي في لبنان.
فلسطين الجريحة لم ترضخ لضغوط الاحتلال وهمجيته، ولم يفلح العدو في إطفاء جذوة الفرح في نفوس المحتفلين. أنوار الميلاد سطعت في بيت لحم وسط دخان القذائف، وطغت ترانيم القداديس على أزيز الرصاص، تعانقها أصوات المآذن والجوامع المكبرة للميلاد المتجدد والمنتصر على الآلام.
وفي لبنان تشاركت المناطق فرحة العيد وتبادل الجميع التهنئة، فكان التزاور والاحتفالات المشتركة بين المسيحيين والمسلمين في كل المناطق الرد الأبلغ على غدر الإرهاب وجاهلية التكفير.
أما في سورية فقد جدد جميع السوريين عهدهم الوطني الراسخ بوحدة الحياة وبالمقاومة ضد جميع الغزوات الاستعمارية. وكان مشهد الاحتفال في كنائس سورية وشوارعها و أسواقها معبرا وساحرا. بينما ركزت خطب البطاركة والمطارنة المشرقيين على الصمود في وجه العدوان ودعم الدولة الوطنية الجامعة للشعب السوري، والمجسدة لآماله وتطلعاته في الخلاص وفي الانتصار على العدوان عبر دحر عصابات الإرهاب التكفيري.
الصورة الكاذبة والمضللة التي رسمها الغرب لشعوبنا هي أننا جماعات دينية متباعدة، تمزقها الصراعات. وهو بنى خططه للغزو والهيمنة والتدخل على هدف محدد، هو إحداث عملية تفتيت وتفرقة وتناحر مستديم، تقاومها شعوبنا بوحدة الحياة، وبالشراكة المتجذرة عبر خيار المقاومة والتمسك بالحرية والسيادة، بدلا من عروض الهجرة وخطط التهجير، التي روّجها قادة الغرب الاستعماري قبل أربعة أعوام، عندما شنّوا الحرب على سورية، كما سبق لهم أن فعلوا في لبنان قبل أربعين عاما.. لكن أبناء الشرق يقاومون ويصمدون.. تتفوق حقيقة الحياة وتزهر في عيد الميلاد بشارة انتصار.