حل في أوكرانيا على الطريقة السورية
ناصر قنديل
بدأت الأزمة الأوكرانية بصفتها استثماراً أميركياً غربياً في الجوار القريب لروسيا، والأشدّ إيلاماً في مفهوم المدى الحيوي والأمن القومي، على أرضية داخلية رخوة مهيأة للتشظي، بحكم تكوين هجين لم تكتمل فيه عناصر الأمة ولا مكونات الذاكرة الموحدة لوطن، ودأبت كلّ عمليات التشكيل السياسي للدولة الأوكرانية منذ تفكك الاتحاد السوفياتي، على التوظيف المشبع لما فوق قدرة المعادلة الداخلية على احتماله للعناصر الخارجية، حتى صارت أوكرانيا ساحة داخلية تحكمها التوازنات الخارجية.
تشبه الحالة الأوكرانية لبنان ما قبل عام 1982 وحضور الخطر «الإسرائيلي» بصورة مباشرة كعامل تغيير لقواعد التوازنات الداخلية والإقليمية، ودوره في ولادة المقاومة كعامل فعل تحوّل في خضم المواجهة الطويلة والمفتوحة إلى عنصر استراتيجي في صناعة المشهد الإقليمي من جهة، ومصدر قوة ومناعة للبنان سواء في صدّ العدوان «الإسرائيلي» المتمادي منذ عام 1948 مع اغتصاب فلسطين، وسبباً لأمل لبناني عام بالانتصار في الحرب على الإرهاب من جهة أخرى.
تشابه لبنان وأوكرانيا، بانقسام سكن المجتمع ثقافياً وفكرياً وسياسياً، بين ولاء للمشروع الغربي، الذي كان يتخذ وراءه غالبية مسيحية، وولاء للهوية العربية كان يستحوذ على مشاعر وولاء الغالبية من بين المسلمين، كما أظهرت انقسامات عام 1920 يوم أعلن الملك فيصل الدولة السورية وطالبت مؤتمرات الساحل بالانضمام إليها، بينما شكل إعلان لبنان الكبير، محور استقطاب قوى الجبل آنذاك، وبقي هذا الانقسام جمراً تحت الرماد لينفجر عامي 1952 و1958 وانتهاء بالحرب الأهلية المديدة عام 1975، وصار واضحاً أنّ كلّ تغيّر في موازين العلاقات بين مشروع الغرب والمشروع العربي في زمن جمال عبد الناصر وبعده زمن حافظ الأسد، يعني استخداماً للتوازن اللبناني الهشّ لتغيير موازين القوى الإقليمية وربما الدولية، وكلّ تغيّر في موازين القوى بين المشروعين يغري فريقاً داخلياً للاستقواء على الآخر باستثمار هذا التغيير.
في أوكرانيا يحدث الشيء نفسه منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، حيث الشرق أوكرانيين هم مواطنون من أصول روسية، لا يتوانون عن القول إنّ الانضمام إلى روسيا أمنية تغلب على انتمائهم إلى دولة أوكرانيا الموحدة، وحيث الغرب الأوكراني يغلب الانتماء الأوروبي على الهوية الأوكرانية الجامعة، وصولاً إلى التنافر على أساس ديني بين المذهبين الكاثوليكي والأرثوذكسي لكلّ من الغرب والشرق، فتعيش أوكرانيا على صفيح ساخن وفالق جيولوجي يجعلها عرضة للبراكين والزلازل، كلما اهتزت التوازنات بين روسيا وأوروبا ومن ورائها أميركا، ومثلما يطالب الشرق أوكرانيين بالانضمام إلى روسيا علناً لا يتورّع أبناء الغرب عن المطالبة بالانضمام إلى حلف شمال الأطلسي غير آبهين بما يرتبه ذلك من خطر الدخول في حرب مباشرة مع روسيا لن تجلب إلا الخراب لبلدهم.
ليس جديداً اكتشاف الأميركيين لأوكرانيا كخاصرة رخوة للأمن القومي الروسي، فقد سبق وكتب كلّ من هنري كيسنجر أبرز وزراء خارجية أميركا السابقين، وزبيغنيو بريجنسكي أبرز من تبوأ مركز مستشار الأمن القومي الأميركي، يقولان في عام 1980، مع تصاعد الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي، أن موسكو تسقط من كييف.
انتبهت روسيا إلى قول القيصر كاترين الثانية قبل قرابة قرنين، أنّ خط أمن موسكو يبدأ من دمشق، فاستثمرت مصادر القوة، لخوض معركة استرداد مكانتها كدولة عظمى، تشارك في صناعة السياسة من موقع الشريك الكامل على مساحة العالم، وخصوصاً ما تراه مداها الحيوي، فتذكر الأميركيون قول كيسنجر وبريجنسكي، وأشعلوا أوكرانيا التي ترقص أصلاً على الصفيح الساخن في وجه موسكو.
صمدت روسيا وحسمت أمر شبه جزيرة القرم، البيضة الذهبية استراتيجياً في أوكرانيا، كمقرّ للأسطول الروسي، ورابط روسيا بالبحر الأسود تمهيداً للعبور إلى العالمية عبر دخول البحر الأبيض المتوسط، وصمد الشرق أوكرانيون، ودارت مواجهة زجّت خلالها كييف بربع مليون جندي وتكلفت الآلاف من جنودها بين قتلى وجرحى، وأنفق الغرب قرابة الملياري دولار على حكومة كييف لتبقى واقفة على قدميها، وحسمت النتيجة، أنّ موسكو لن تتراجع، بعد الكلام التاريخي للرئيس الروسي فلاديمير بوتين في جمعية دول اتحاد روسيا، بقوله إنّ القرم عند الروس كالمسجد الأقصى عند المسلمين وكنيسة القيامة عند المسيحيين وهيكل سليمان عند اليهود، وإنّ روسيا جاهزة للمواجهة وتحقيق النصر، ولن تقبل مهانة حرمانها من حقها بالمعاملة كدولة عظمى شريك كامل في الساحة الدولية، وفقاً لكلّ عناصر الجغرافيا والسلاح والاقتصاد.
وقف النار في أوكرانيا يصمد هذه المرة وتدخل الهدنة طريق الوصول إلى نشر المراقبين والانتهاء بالحوار السياسي، وفقاً لنصوص اتفاق مينسك، وصولاً إلى تعديل دستور أوكرانيا والذهاب إلى الاستفتاء على الدولة الفيديرالية، لأنّ أميركا وأوروبا يائستان من فرض الأمر الواقع على موسكو، ودفعها إلى التراجع.
العالم يشهد نهاية الحروب بين المحورين اللذين تشكلا حول الأزمة السورية، بدءاً من أوكرانيا، على رغم وعورة طريق التفاوض، وعلى رغم حجم التعقيدات الأوكرانية الداخلية، وحجم الملفات العالقة بين موسكو وواشنطن، من العقوبات إلى الدرع الصاروخية.
حلّ في أوكرانيا على الطريقة السورية، ومينسك اتفاق يشبه جنيف السوري، لكن البداية هي التسليم بالحقائق أولاً، ثم التفاوض وبلورة التفاصيل اللازمة والمتعبة لنجاح التفاهمات، والشيطان يسكن دوماً في التفاصيل، لكن يبدو أن الشيطان قد استنفد ألعابه.
(البناء)