بالعربي…
فاطمة طفيلي
تفننت التجمعات البشرية منذ نشوئها في اختراع أساليب للتعبير والتواصل والتفاهم. تدرّجت من الأصوات والإشارات إلى الرسوم والأشكال المنحوتة على قوالب صلبة، إلى الجلود التي اعتمدت لفترة ليست بالقصيرة مادة لتبادل الرسائل منذ إدراكها الحاجة إلى التوسّع والتبادل التجاري، إلى حين اكتشاف الورق والمداد والرموز اسلوبا متطورا للتعبير وصولا إلى الحرف الذي شكل اساس اللغات المعتمدة، تتميز كل منها بمفرداتها ومصطلحاتها وأشكال نطقها وكتابتها.
عديدة هي اللغات القديمة التي سبقت العربية، انقرض معظمها مع مرور الزمن وتعاقبِ الشعوب، وبقيت منها ندرة قليلة حفظتها مجموعات صغيرة وتناقلتها على مر الاجيال، لينحصر وجود في ما بقي من أثار ومخطوطات قديمة.
وقد شكل استمرار العربية وتطورها كلغة حية معترف بها في العالم المعاصر، نتيجة قرون طويلة من الكفاح، الذي خاضه العرب دفاعا عن هويتهم القومية، وعن ثقافتهم المختزنة في اللغة بجميع تعبيراتها. فكانت اللغة البناء الحضاري المعبر عن إرادة راسخة، بلغت ذروتها في صد موجة التتريك، التي استهدفت اللغة العربية مباشرة كوسيلة لمحو الهوية القومية.
اليوم وفي زمن الهيمنة الغربية المجسدة بنزعات العولمة، تعمل أمم كثيرة في الغرب وفي الشرق لبناء دفاعات حضارية قوية تحصّن لغاتها القومية والوطنية في وجه الغزو الأميركي الشامل لجميع الثقافات، والمتجاوز لجميع الخصوصيات من أجل الهيمنة الأحادية المطلقة لديكتاتورية السوق ولثقافة الاستهلاك.
تعيش اللغة العربية أزمة حقيقية تضاف إلى واقعها الصعب نتيجة ما يصيبها من لحن وتغريب وما تتعرض له من إساءات واستهتار بأصولها وقواعدها، في ظل التنافس على إهمالها وإنكارها لصالح اعتماد اللغات الأجنبية وسيلة تعبير في العمل كما في الشؤون اليومية وحتى في التخاطب العائلي. ويتباهى اللبنانيون بعدد ما يتقنون من لغات أضعفها لغتهم الأم، يحتاجون في استخدامها للاستعانة بالتعابير والمصلحات الأجنبية سبيلا لحسن التعبير والإيضاح. وقد ذهبت مثالا تلك العبارة الشهيرة التي يتندر بها اللبناني لتوصيف حاله بالعربية بأنه قادر على إدراج ثلاث لغات في جملة واحدة: “hi كيفك ça va؟.
أما عن الجيل الصاعد فحدّث ولا حرج، عمن ينشأ على التعددية العالمية أو المعولمة، لا فرق، في كنف عاملات أجنبيات يتحدثن العربية بلغاتهن، فخورات بمهاراتهن وقدراتهن على النطق بها، فبأي ألسنة هجينة ينطق أطفالنا، حين يغيب الاهل ولا تهتم مدارسنا بالتصويب وبإصلاح ما اعترى ألسنتهم من اعوجاج، وبالعمل الجدي على وضع خطط تربوية فاعلة تعلّمهم أصول وقواعد لغة وطنهم وعنوان انتمائهم القومي؟!. وحين يتحفنا إعلامنا، على تنوّعه وتعدّد وسائله المرئية والمسموعة والمكتوبة بهذا الكم الهائل من الأخطاء والجرائم اللغوية، التي لا تجد من يضع حدا لتناميها وتوسّعها. ناهيك عن المئات من مدّعي الثقافة والأدب، ومن المستشعرين والكتبة العارفين بكل علم وفن، اللهم إلاّ اللغة العربية وأصولها، ممن تزدهر معهم صفحات الفيسبوك والتويتر وغيرها من مواقع التواصل الاجتماعي الناطقة بلغتها الخاصة، المسمّاة لغة العصر!!.
أطفالنا عرضة للتغريب اللغوي كل يوم، ولغتنا العربية منتهكة من أهلها قبل غيرهم. كيف لا وقد اعتدنا التحاور بلكنات أهل الأرض قاطبة ولغاتهم، مزهوين باغترابنا عن ثقافتنا وحضارتنا العربية الموغلة في التاريخ، والتي كانت من دعائم التطور وركائز حضارات الشعوب، وقد اختزنت العلماء في الرياضيات والطب وعلم الفلك والفراسة ودراسة الكون وأسراره والطبيعة وثرواتها، كما في الفلسفة والأدب والشعر، وفي تاريخنا العربي سجل حافل بأسماء الرواد والمخترعين، وكذلك هو الحاضر الواعد بمستقبل أفضل، نستعيد فيه ألق الماضي وعبق التاريخ المليء بالإنجازات. نتعامل مع العالم من باب النّدية والتبادل لا من موقع التغريب والتبعية بعيدا عن انتماءاتنا الوطنية والقومية وفي أساسها لغتنا العربية.
أزمة اللغة العربية في مدارسنا حقيقية بعد الفضيحة، التي تكشفت عنها نتائج الامتحانات الرسمية للشهادة المتوسطة عن العام الدراسي 2011- 2012، يومها كانت مادة اللغة العربية سبب رسوب العشرات من طلابنا، نتيجة عجزهم عن التعبير بلغتهم الأم، من هنا ربما، التقت مجموعة من معلمي اللغة العربية على تأسيس تجمّع خاص يحمل اسم “تجمع معلّمي اللغة العربية وآدابها في لبنان” وأعلنت في الثلاثين من تشرين الثاني 2014 بيانه التأسيسي وفي طليعة اهدافه البحث في الشؤون الاكاديمية المرتبطة بتعليم مادة اللغة العربية وآدابها، البحث في كل المسائل المرتبطة بتطوير اللغة العربية وتقديم الآراء المناسبة عن نواحي التفعيل وتنظيم ورش عمل تربوية وتعليمة لتطوير أطر تعليم المادة او استخدامها وصولا إلى التواصل مع وزارة التربية والمركز التربوي للبحوث والانماء بكل الشؤون والمسائل المرتبطة بتعليم مادة اللغة العربية وآدابها وتطوير المنهاج التعليمي.
التجمّع أعلن عن تنظيم مؤتمر في الأونيسكو في اليوم العالمي للغة العربية في الثامن عشر من كانون الاول 2014. فهل يتحوّل الى محاولة جدية للفعل في مكان نحتاج فيه إلى جهود كبيرة من المسؤولين والمهتمين ومن أهل الاختصاص، والى تظافر هذه الجهود لتغيير واقع مزر يدفع بنا إلى مجاهل التاريخ شعوبا خانعة مستسلمة للتبعية والاستهلاك، متنكرة لأصولها. وبذلك يكون البذرة الصالحة التي ستنبت وتنمو لتثمر تجديدا للغتنا وتعزيزا لهويتنا الوطنية وانتمائنا العربي؟؟؟…
مسيرة طويلة وشائكة، كلنا أمل بأن نوفّق في الخطوة الأولى على طريق الألف الباقية…